الأستاذ إدريس رحاوي
في ظل التحولات التكنولوجية الكبرى التي يشهدها العالم اليوم، أصبح بناء اقتصاد رقمي من أبرز الأولويات لتحقيق التنمية المستدامة، وتعزيز مكانة المغرب في الساحة الدولية. الاقتصاد الرقمي لم يعد مجرد خيار، بل هو ضرورة استراتيجية تفرضها متطلبات العصر الحديث. لذلك، يتعين على المغرب تسريع وتيرة المشاريع الرقمية وتطوير هذه الصناعة الواعدة لتكون قادرة على مواجهة تحديات المستقبل وتحقيق توازن تنموي يواكب التطورات التي تشهدها الدول الرائدة في هذا المجال.
المغرب يملك رؤية واعدة نحو تطوير الاقتصاد الرقمي، وتجلى ذلك في العديد من البرامج والمبادرات الحكومية التي تسعى لتعزيز البنية التحتية الرقمية، وتحديث القوانين واللوائح التي تنظم هذا القطاع. من أبرز هذه المبادرات، رؤية “المغرب الرقمي 2025” التي تهدف إلى بناء اقتصاد رقمي قوي يمكنه استيعاب التحولات التكنولوجية المتسارعة، ويضمن مكانة المغرب كمركز رقمي إقليمي في إفريقيا والعالم العربي.
تتجسد هذه الرؤية في دعم التحول الرقمي لمختلف القطاعات الحيوية مثل التعليم، الصحة، الإدارة العامة، والقطاع الخاص. إذ يتم التركيز على رقمنة الخدمات الحكومية وتبسيط الإجراءات للمواطنين من خلال منصات إلكترونية حديثة، مما يعزز الشفافية ويقلل من الفساد. كما يُشجع على تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتطوير تطبيقات وحلول مبتكرة تسهم في تنشيط الاقتصاد الرقمي.
لبناء اقتصاد رقمي قوي في المغرب، يجب التركيز على عدة مقومات أساسية، تتضمن تطوير شبكة الإنترنت وتوسيع تغطية الإنترنت ذات النطاق العريض إلى مختلف أنحاء البلاد، إذ يعد الوصول إلى الإنترنت بسرعات عالية وبأسعار معقولة أساس أي اقتصاد رقمي ناجح. إلى جانب ذلك، تطوير قدرات الشباب في المجالات الرقمية من خلال برامج تعليمية متخصصة في البرمجة، الذكاء الاصطناعي، تحليل البيانات، والتجارة الإلكترونية، مع ضرورة تكييف النظام التعليمي ليتماشى مع متطلبات العصر الرقمي ويمنح الأجيال القادمة المهارات اللازمة للعمل في الاقتصاد الرقمي.
تشجيع إنشاء الشركات الناشئة في المجال التكنولوجي والرقمي يعتبر محركاً أساسياً للنمو الاقتصادي. ينبغي توفير بيئة مشجعة للابتكار، من خلال دعم وتمويل الأفكار الإبداعية والمشاريع الرقمية الواعدة التي يقودها الشباب المغاربة. دعم هذا القطاع سيساهم في خلق فرص عمل جديدة ويعزز دور المغرب كمركز إقليمي في مجال التكنولوجيا والابتكار.
ومع تسارع التحول الرقمي، تزداد الحاجة إلى تعزيز أنظمة الأمن السيبراني لحماية البيانات الشخصية والمؤسساتية. لذا، يجب على المغرب تبني سياسات صارمة في هذا المجال لضمان أمان التعاملات الإلكترونية والثقة في الاقتصاد الرقمي.
يمكن للمغرب الاستفادة من تجارب الدول التي سبقت في بناء اقتصاد رقمي قوي مثل إستونيا، سنغافورة، والهند. هذه الدول نجحت في تحقيق قفزات نوعية من خلال الاستثمار في التكنولوجيا والابتكار، وتطوير خدمات حكومية رقمية متقدمة. لقد اعتمدت هذه الدول على تحسين البنية التحتية الرقمية، وتقديم خدمات رقمية متكاملة، مما ساعدها على تعزيز النمو الاقتصادي وتحسين جودة الحياة. والمغرب، وهو في بداية رحلته نحو الاقتصاد الرقمي، بإمكانه الاستفادة من هذه التجارب لتطوير رؤى جديدة وتحقيق تقدم كبير في هذا المجال. الانفتاح على الشراكات الدولية وتبادل الخبرات سيساهم بلا شك في تسريع وتيرة التحول الرقمي، ويوفر للمغرب فرصة لمواكبة التطورات العالمية.
رغم الإمكانيات الكبيرة التي يتيحها الاقتصاد الرقمي، فإن هناك تحديات تحتاج إلى معالجة، مثل الفجوة الرقمية بين المدن والقرى، وضعف الوصول إلى الإنترنت في بعض المناطق. إلى جانب ذلك، هناك حاجة ماسة لتحسين التعليم الرقمي وتوفير التكوين المستمر للعاملين في مختلف القطاعات.
إلا أن هذه التحديات تشكل في ذاتها فرصاً لتحقيق النمو. تطوير الاقتصاد الرقمي سيساهم في تحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وتحقيق نمو اقتصادي مستدام، وخلق فرص عمل جديدة. كما أن التكنولوجيا الرقمية تتيح للمغرب فرصاً للدخول إلى أسواق جديدة وتعزيز تنافسيته على الصعيدين الإقليمي والدولي.
بناء اقتصاد رقمي في المغرب ليس مجرد خيار استراتيجي، بل هو ضرورة حتمية لمواجهة تحديات المستقبل. المغرب اليوم على مفترق طرق، حيث يتعين عليه تسريع وتيرة المشاريع الرقمية، وتطوير بنيته التحتية، والاستثمار في التعليم والتكوين، مع التركيز على الابتكار وريادة الأعمال. تحقيق هذا الطموح يتطلب تضافر جهود الجميع، من الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، حتى يصبح المغرب مركزاً إقليمياً رائداً في مجال التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي، ويواكب تطورات العالم المتسارع