
يقلم : الصحافي فؤاد السعدي
من يراقب من؟ ومن يحاسب من؟ وأي معنى يبقى للسلطة الوصية إذا تحولت من رقيب على الشرعية إلى متفرج على الفوضى؟ هل يحق لوالي جهة طنجة تطوان الحسيمة أن يلتزم الصمت أمام خروقات موثقة وشبهات قانونية ثابتة في ملف يهم المرفق العام ويمس ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة؟ أم أن الصمت في هذه الحالة لم يعد موقفا إداريا محسوبا، بل خيارا سياسيا يكشف أكثر مما يخفي؟
منذ أن تفجرت قضية “ملعب البادل” بتجزئة La Prairie Rose 2 بحي بوبانة بطنجة، والرأي العام المحلي يعيش على وقع دهشة متواصلة أمام تفاصيل مشروع أقيم فوق أرض مخصصة أصلا كفضاء لألعاب الأطفال، في خرق واضح لتصميم التهيئة ومقتضيات قانون التعمير. ومع تصاعد الأصوات المطالبة بالمحاسبة، ظل الموقف الرسمي غائبا تمامًا، فلا رد من الولاية ولا إعلان عن فتح أي تحقيق إداري، وكأن ما يجري يحدث خارج نطاق صلاحياتها. هذا الغياب جعل الأنظار تتجه نحو الوالي يونس التازي، باعتباره الممثل الترابي لوزارة الداخلية والمسؤول دستوريا عن مراقبة شرعية قرارات الجماعات الترابية.
ومع توالي المعطيات التي كشفها المحامي إسماعيل الكرفطي الجباري والوزير السابق عبد السلام الصديقي خلال الندوة الصحفية الأخيرة، ازداد الغموض حول أسباب غياب أي تحرك من جانب الوالي، رغم أن القانون واضح في هذا الباب، إذ يلزم ممثل السلطة المركزية بالتدخل كلما تبين وجود خرق إداري أو تجاوز يمس المال الجماعي أو الملك العمومي. لكن الواقع أظهر عكس ذلك، إذ اختار الوالي الصمت، تاركا للرأي العام مهمة التأويل، وللشبهات فرصة التمدد.
ويبدو التناقض صارخًا حين نستحضر مواقف سابقة أبان فيها الوالي التازي عن حزم شديد. فقبل أشهر فقط، سارع إلى استفسار محمد الشرقاوي، الرئيس السابق لمقاطعة طنجة المدينة، بسبب توقيعه على رخص بناء غير قانونية، ثم بادر بسرعة إلى تفعيل مسطرة العزل، مبررًا ذلك حينها بضرورة حماية المشروعية وتطبيق القانون. واليوم، تتكرر الحالة بصورة أوضح، والخروقات أوضح، غير أن الحزم اختفى والرقابة غابت. وهنا يطرح السؤال بحدة: ماذا تغير بين الأمس واليوم؟
هل لأن العمدة الحالي منير الليموري ينتمي إلى حزب الأصالة والمعاصرة، أحد مكونات الأغلبية الحكومية، بينما الشرقاوي ينتمي إلى الحركة الشعبية التي تصطف في المعارضة؟ أم أن خلف هذا الصمت حسابات تتجاوز الانتماءات الحزبية لتلامس توازنات أكثر عمقًا داخل الإدارة الترابية نفسها؟
إن المفارقة بين الموقفين تضعنا أمام سؤال جوهري حول الانتقائية في ممارسة الرقابة، فكيف لوالي جهة أن يتصرف بصرامة في ملف، ثم يلتزم التجاهل في آخر يتضمن مخالفات موثقة؟ حينها يصبح الصمت شكلاً من أشكال الانحياز المقنع، ويتحول الحياد إلى تواطؤ غير معلن. وهكذا، فإن المواطن الذي يتابع هذه الازدواجية، لم يعد يرى في الموقف الرسمي سوى رسالة سلبية فحواها أن القانون لا يُطبّق على الجميع بنفس المعيار، وأن القرب من دوائر القرار قد يمنح حصانة غير مكتوبة.
وما يضفي على هذا المشهد رمزية خاصة، هو سلوك محمد الشرقاوي نفسه الذي، رغم ما تعرض له من ظلم إداري، اختار الصمت ولم يسع إلى التشويش على السلطة الترابية، في موقف يعكس روحًا وطنية عالية وإيمانًا بقدسية المؤسسات. ومع ذلك، حملت تدوينته الأخيرة رسائل عميقة حين أشار إلى امتلاكه وثائق “خطيرة” كافية لإدانة المتورطين، غير أنه فضل الصمت حتى لا يُتخذ القرار في حقه بدل اتخاذه في حق المخالفين الحقيقيين. تلك الإشارة لم تكن مجرد انفعال، بل تعبير عن أزمة ثقة في توازن السلطة وعدالة القرار.
إن استمرار صمت الوالي يونس التازي أمام هذه المعطيات لا يمكن تفسيره إلا كخلل في أداء الوظيفة الرقابية، فحين يملك المسؤول صلاحية المراقبة وحق الإحالة على القضاء ثم يختار عدم استعمالها، يصبح شريكا في ما يُرتكب من تجاوزات بالصمت لا بالفعل. فالتقاعس عن تطبيق القانون لا يقل خطورة عن خرقه، خصوصًا حين يتعلق الأمر بملف يمس المال العام ويهدد مصداقية الدولة في عيون مواطنيها.
قضية ملعب البادل بطنجة لم تعد مجرد خلاف تعميري، بل تحولت إلى امتحان حقيقي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وإلى اختبار لمصداقية السلطة الوصية في فرض احترام القانون على الجميع. واليوم، تبقى الكرة في ملعب وزارة الداخلية، فإما أن تتحرك لتصحيح المسار وتعيد الاعتبار لهيبة الدولة، أو تترك الأمور تمضي نحو منطق انتقائي يفرغ القانون من جوهره ويعمق أزمة الثقة بين المواطن والإدارة.
إن الصمت في مثل هذه القضايا لا يحمي المؤسسات، بل يضعفها، ولا يصون هيبة الدولة، بل يجرّدها من معناها. فحين تتحول الرقابة إلى مجاملة، ويتحول الصمت إلى سياسة، يصبح السؤال مفتوحًا على مصير أوسع من مجرد ملعب بادل: من يحرس القانون حين ينام حراسه؟
