بقلم : ذ. أمين بوشعيب – إيطاليا
كنتُ لازلتُ صغيرا عندما اهتز العرب والمسلمون فرحا وطربا بالنصر على إسرائيل عام 1973، كان هذا النصر يومذاك بمثابة ملحمة كبرى شارك فيها عدد من البلدان العربية والإسلامية. لم تكن في تلك الفترة وسائل الإعلام قد تطورت بالشكل الذي نراه اليوم، حيث أصبحت لوسائل الإعلام والاتصال في العصر الحديث، أدوارا رئيسية في العملية التواصلية الإخبارية، وإنتاج المعلومة ونشرها واستخدامها بشكل سريع.
اليوم وبعد مرور خمسين سنة على تلك الملحمة، استطاعت المقاومة الفلسطينية استعادة العزة والكرامة للعرب مرة أخرى، وإذلال جيش إسرائيل “الذي لا يقهر” وإهدار كرامته على أرض المعركة، في عملية أطلق عليها المقاومون الفلسطينيون عملية ” طوفان الأقصى” ولقد كانوا موفقين في اختيار هذا الاسم، لأن الطوفان أو “طوفان نوح عليه السلام” حدث بسبب طغيان البشر على الأرض، وطوفان الأقصى كان بسبب طغيان بني إسرائيل وانتهاكاتها المستمرة للمسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية في مدينة القدس.
إنه عملية مباغتة شنتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على إسرائيل فجر يوم السبت 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وشملت هجوما بريا، وبحريا، وجويا، وتسلُّلا للمقاومين إلى عدة مستوطنات في غلاف غزة. وهي عملية فيها، كما يرى بعض المحللين، إهانة لجيش الاحتلال، ذلك أن إسرائيل تعرضت للغزو من اثنين وعشرين موقعا خارج قطاع غزة بما في ذلك بلدات لا تبعد سوى خمسة عشر ميلا داخل دولة الاحتلال.
وأشار ذات المحللين، إلى أن المقاومة الفلسطينية لم تغزُ فقط إسرائيل وتقتل منهم عددا كبيرا من الجنود، بل إنها أخذت أسرى إلى غزة، عبر حدود أنفق الاحتلال مليار دولار على بنائها، ومن المفترض أنها عصية على الخرق. وهذه ضربة قوية لقوة الردع الإسرائيلية، ولنظرية الجيش الذي لا يقهر التي ظلت إسرائيل ترددها منذ عشرات السنين، وتخيف بها الحكام العرب.
إلى حدود كتابة هذه السطور أعلنت المقاومة الفلسطينية أنها على بعد عشرة كيلومترات من الخليل، بالضفة الغربية، ليس مهماً كم ستستمر هذه المعركة، ولا من يشارك فيها أو من لا يشارك، بقدر ما يهم إدراك أهدافها، ولعل من بين الأهداف المسطرة لهذا الطوفان هو ربط غزة بالضفة الغربية وباقي أجزاء فلسطين. المهم، طالت المعركة أو قصرت، فقد آن الأوان لتحقيق هذا الهدف، ومن ثمّ الإبقاء على وحدة المقاومة الفلسطينية من أجل تحرير فلسطين “كل فلسطين الحبيبة” الحلم الذي يراود ملايين المسلمين والعرب.
طوفان الأقصى رسالة واضحة، للحكام العرب التي ارتموا في حضن الكيان الإسرائيلي الذي رأوا فيه حليفا قويا: يوفر لهم الحماية المزعومة، ويمنع سقوط عروشهم، ويمدهم بالعمر المديد. فيما تبيّن أن هذا الكيان، كيان هش، يهمين عليه الخوف الدائم والجبن والاضطراب وهواجس المستقبل. وعلى الرغم من امتلاكه آلة عسكرية ودعما أستراتيجيا وماليا واعلاميا ومعنويا من حلفائه وعلى رأسهم أمريكا، ” استطاع المقاومون الفلسطينيون، أن يُفقدوا العدو الإسرائيلي توازنه خلال دقائق معدودة، وأن يرسموا معالم الذل والهزيمة والانكسار على وجهه. وهي رسالة كذلك إلى أمريكا والداعمين للاحتلال الإسرائيلي أن الصراع سيحسم في أرض الميدان وبدم الشهداء الأطهار، وبطولات الشعب الفلسطيني، وليس عبر التخويف بإرسال حاملة الطائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وأن المقاومين لا يخشون تهديدات الإدارة الأمريكية.
فلاش: في هذا اليوم الأغر، وبعد سماع أنباء النصر الفلسطيني العظيم، خرج آلاف المغاربة في عشرات المظاهرات طالت أكثر من خمسين مدينة مغربية من شمال المغرب إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، وذلك فرحا بالنصر الذي حققته المقاومة الفلسطينية الصامدة بأرض الإسراء والمعراج.
ولقد كان لي شرف الحضور والمشاركة في إحدى الفعاليات التي أقيمت بإحدى المدن المغربية، رأيت فيها الفرحة والبهجة مرسومتين على ملامح المتظاهرين، الذين اختلفت أعمارهم ما بين أطفال ونساء وشباب وشيوخ، وهم يرفعون هتافات التكبير، ويدعون للمقاومة الفلسطينية بالنصر، وهم يلوّحون بالرايات الخضراء والأعلام الفلسطينية.
أحد الشيوخ الحاضرين قال لي: إنه لم يعش في حياته يوماً كهذا الذي يعيشه اليوم”، معرباً عن فرحته بالقول: “فرحتي لا يمكن وصفها، بكيت كالأطفال وأنا أشاهد المقاومين يسقون الصهاينة كؤوس الذل والهوان” وختم بقوله: “الحمد لله أنني عشت حتى أرى بأم عينيّ هذا النصر العظيم غير المسبوق في الصراع العربي الإسرائيلي”
إلى ذلك بعث المتظاهرون عدة رسائل إلى النظام المغربي من خلال الشعارات التي رفعوها، رسائل ترفض رفضا قاطعا، كل الاتفاقيات التي وقعتها سواء حكومةُ سعد الدين العثماني، أو الحكومة الحالية مع دولة الاحتلال الصهيوني. وأنهم لن يتنازلوا، ولن يسمحوا لأيّ كان -مهما علا منصبه- أن يدنس تاريخ أجدادهم، الذين قدموا أرواحهم فداء للقدس، وذلك بتطبيع العلاقات، باسم الشعب المغربي، مع الصهاينة المجرمين. وأما الرسالة التي استأثرت باهتمامي فهي الحماس العارم الذي أبداه الصغار قبل الكبار عن استعدادهم التام، لتلبية نداء الأقصى، والمشاركة في تحريره وتطهيره من اليهود الغاصبين، كما فعل أجدادُهم، من قبلُ، عندما شاركوا في تحرير القدس من الصليبيين بقيادة صلاح الدين الأيوبي.