بقلم : الأستاذ عادل تشيكطو
اطّلعت كباقي الجمهور على بيان رابطة علماء المغرب العربي، واستغربت لمضمونه ولما يحمله من تغليط للعامة وتسويغ غير واقعي للقضايا التي تتضمنها المسودة المصرح بها من قبل السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية.
إن أول ما تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ البيان المذكور، هو السؤال المؤرق الذي لم أجد له جوبا لحد الآن:
لماذا تسكت أوراق علماء المغرب العربي عن الظلم والجور والاستبداد في الجزائر وفي تونس وفي ليبيا وموريتانيا؟
إن أولوية الناس اليوم هي الحديث عن المآسي التي يحيون تحت رحمتها في كل ثانية وفي كل حين، و واجب علماء الدين،أيضا، هو أن يستأسدوا في مواجهة الظلم والاستبداد، ذلك لأنهم يحملون مسؤولية عظيمة في مواجهة الظلم والاستبداد، فهم ورثة الأنبياء في نصرة الحق وإقامة العدل. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58)، وهذه الأمانة تشمل بيان الحق والوقوف في وجه الظلم بكل أشكاله، والجهاد في سبيل مجابهته كما قال رسولنا الكريم ﷺ: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” (رواه النسائي)، فما قول علماء المغرب العربي فيما يرتكبه نظام العسكر بالجزائر، وفي استبداد وديكتاتورية الرئيس قيس في بلاد تونس؟! .
إن السكوت عن الظلم خيانة للأمانة التي أمر الله بأدائها، وقد ذم الله الذين يكتمون الحق خوفًا أو طمعًا بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} (البقرة: 174)، وعليه، فإن واجب العلماء هو قول الحق ولو كان مرًّا، ونصرة المظلومين، والعمل على إقامة العدل، والدفاع عن الحقوق الشرعية، وعدم الركون إلى الظالمين، مصداقًا لقوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هود: 113).
لقد سال مداد علمائنا الأجلاء فقط في معارضة ما صرح به الناطق باسم الشؤون الإسلامية في المملكة المغربية، وعطلوا مفاهيم قول الحق في مناطق أخرى من البلاد المغاربية، وتناسوا أن دورهم محوري في تحقيق الإصلاح الاجتماعي والسياسي، من خلال التوجيه والنصيحة، وفضح الاستبداد، وتوعية الأمة بواجبها في مواجهة الظلم، مع الحرص على السعي لتحقيق العدل وفقًا لتعاليم الكتاب والسنة.
ورجوعا الى مضمون البيان وإلى القضايا المطروحة فيه، لابد من التأكيد على أن علماءنا حفظهم الله تجاهلوا منهجيةً، في غاية الأهمية، ترتكز على أساس فهم النصوص الشرعية في سياقها الصحيح، واعتبار أن المصالح المرسلة والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تؤثر على التشريعات، من أهم العناصر التي يجب أن تكون حاضرة أثناء الاحتكام للكتاب والسنة.
ففي النقطة الأولى التي تطرق إليها البيان المرتبطة بعدم جواز الخروج عن أحكام الشريعة الإسلامية فإن القول بخصوصها بعدم جواز الخروج عن أحكام الشريعة الإسلامية يحتاج إلى التفصيل، إذ أن الشريعة الإسلامية تعترف بالمصالح المرسلة وبتغير الأحكام وفقًا للزمان والمكان، وقد أقر سيدنا محمد ﷺ بعض الاجتهادات التي تخدم مصلحة المجتمع في عصره، حينما قال لمعاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن:
“بمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو” (رواه أبو داود).
فالاجتهاد المرتبط بمدونة الأسرة ليس خروجًا عن الشريعة، بل تحقيق لمقاصدها، و الحقُّ أن في عصرنا هذا، لا يعني التحاكم إلى القوانين الوضعية، بالضرورة، نبذاً للشريعة، بل هو وسيلة لتنظيم حياة الناس بما يحقق العدالة، طالما أن هذه القوانين لا تتصادم مع مقاصد الشريعة الكبرى.
أما النقطة الثانية المتعلقة بالتعديلات التي قال عنها البيان أنها مخالفة لإجماع المسلمين، والتي من بينها عقد الزواج وشهادة الشاهدين، فهي مردود عليها بالكتاب والسنة النبوية. فاشتراط شهادة الشاهدين في الزواج أمر اجتهادي وليس محل إجماع، والدليل على ذلك أن القرآن الكريم لم يذكر شرط الشهود في عقد الزواج، وإنما أمر بالتوثيق في المعاملات في قوله تعال {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (البقرة: 282). كما أن السنة النبوية تشير إلى الإشهار كشرط أساسي، وجعلت الإشهار الركن الفاصل في علاقة الزواج، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أعلنوا النكاح” (رواه أحمد)، ولم يقل أشهدوا إذا تزوجتم، ومنه فإن توثيق الزواج في المحاكم بدلاً من الشهادة التقليدية يحقق الإشهار، ويحقق أيضا شهادة القضاة المختصين أمام الله والمجتمع وهذا هو المقصود الشرعي.
أما فيما يتعلق بولاية الأب على الأبناء بعد الطلاق، فإن القول بحرمان الأب من الولاية الحصرية هو تجريد له من حقوقه الشرعية الثابتة، لا يستند إلى دليل شرعي، ويتجاهل المصلحة المعتبرة في الشريعة، زد عليه أن
النبي ﷺ حكم بالولاية للأصلح في الحضانة، كما في حديث المرأة التي قالت له “يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني، فأجابها النبي ﷺ بجوابه العادل: أنت أحق به ما لم تنكحي” (رواه أبو داود). وهو ما نستخلص منه أن التخويل للأم في النيابة القانونية لا يعني حرمان الأب، بل هو تنظيم يهدف لتحقيق مصلحة الطفل.
اعتبر البيان في مسألة ديون الزوجين واستقلال الذمة المالية، أن تحميل أحد الزوجين ديون الآخر واستخلاصه من الإرث مخالف للإجماع، وهذا رأي نجحده بالتأكيد على أن الإلزام بدين أحد الزوجين في حالات خاصة لا يتنافى مع الشريعة، إذا كان ذلك في إطار اتفاق أو تشريع منظم، فرغم أن الأصل هو استقلال الذمة المالية، إلا أن الشريعة لا تمنع التشارك في بعض الحالات لتحقيق مصلحة، مصداقا لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2).
إن تقسيم الأموال بناءً على مساهمة الزوجة، حتى لو كان العمل منزليًا، يدخل في باب الاجتهاد الشرعي، وهو ما حاول بيان رابطة العلماء المغاربيين إنكاره على غيرهم من علماء المسلمين، حتى ولو كان مرتكزهم في هذا الاجتهاد قول النبي ﷺ: “خيركم خيركم لأهله” (رواه الترمذي)، أو حتى إذا كان هذا الاجتهاد يشمل حفظ حقوق الزوجة بما يتناسب مع واقعها؛ ثم إن من شأن هذا الاجتهاد الحديث أن يسعى لتحقيق عدالة اجتماعية تتناسب مع تطورات الحياة الزوجية، خاصة في حالة الطلاق، وهذا لعمري ما يجب على علمائنا الأفاضل أن يثمنوه لا أن يطعنوا فيه.
لقد زاد القارئ للتعليق على مسألة إيقاف بيت الزوجية عن التركة، يقينا ان النقد والتحليل الذي اعتمده البيان المذكور، لا يستند على اية أسس شرعية، وهو الذي لم يذكر ولا نص شرعي يعزز تلك المزاعم.
وإننا من جهتنا نؤكد على أن إعطاء الأولوية لزوجة المتوفى في السكن لا يعني إلغاء حق الورثة، بل هو تنظيم يخدم المصلحة العامة. مصداقا لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُم مِّن وُجْدِكُمْ} (الطلاق: 6).
فالآية الكريمة تدل على أولوية السكن للمرأة بعد وفاة الزوج أو في حالة الطلاق.
هكذا هو حال بعض العلماء سامحنا وسامحهم الله، عندما تتوقف باحة التفكير لديهم عن التمحيص والتحليل والتفكُّر، يلجؤون إلى أساليب عفا عنها الزمن ويرتمون في أحضان شيطان التشكيك في الفكرة المخالفة لرأيهم من قبيل اتهام المغرب بالخضوع للضغوط الدولية وهو مقام لا يستقيم أن يستريح علماؤنا الأجلاء على كنبته.
فاتهام التعديلات بأنها استجابة لضغوط دولية دون دليل، يفتقر للموضوعية، كما أن الإصلاحات القانونية تأتي استجابة لحاجة داخلية لتنظيم المجتمع، وليس بالضرورة لضغوط خارجية.
ما يجهله كتاب البيان أن المدونة لم تكن يوما خاصة بالمذهب المالكي فالشريعة الإسلامية ليست حكرًا على مذهب معين، والإسلام يجمع بين الاجتهادات المختلفة، ورسول الله ﷺ منح للعلماء والحكام مساحة للاجتهاد وشجعهم على خوض مغامرته في قوله الشريف: “إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر” (رواه البخاري). زد على ذلك فإن توحيد التشريعات الوطنية وفقًا لمصلحة المجتمع لا يتعارض مع احترام المذهب المالكي.
تحمَّس علماء المغرب العربي ( وهذه كنية رابطتهم التي ربما يفهم منها أن: العلماء هم بالحصر علماء للعرب المغاربيين ولا علاقة لهم بالأمازيغ) فجاؤوا بجريئة تستوجب الاستغفار، حين قالوا إن تطبيق هذا القانون يعتبر من التحاكم إلى الطاغوت، وهو ما يعدّ عند المالكية ردّة، بمعنى أن المملكة المغربية ومملكة أمير المؤمنين ستصبح مرتدة بمجرد اعتمادها للمدونة في صيغتها الجديدة، فلم يراع البيان وكتابه ما يمكن أن يترتب عن مثل هذه “الفتوى” من فتنة وما يمكن لمثل هذه الأقاويل أن تفرزه من مظاهر التكفير والتطرف.
والحقيقة الشجَّةُ هنا، أن التحاكم إلى القوانين الوضعية لا يعني بالضرورة التحاكم إلى الطاغوت، خاصة إذا كانت هذه القوانين تحقق العدل وتنسجم مع مقاصد الشريعة، والدليل على ذلك أن النبي ﷺ تعامل مع قوانين قريش الجاهلية في بعض المعاملات، ما دامت لا تخالف الشرع.
إن مسؤولية العلماء تشمل الاجتهاد بما يحقق مقاصد الشريعة، وليس مجرد التمسك بالقديم دون النظر إلى الواقع، وهذا ما أكد عليه النبي ﷺ حين قال “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” (رواه أبو داود)؛ ثم أليس من الجهل بالأمور والعار أن يدعو البيان، القضاة والمحامين لرفض القوانين؟!
ألن يؤدي هذا التحريض إلى الفوضى؟!
هل يجهل علماؤنا أن واجب من حرضوهم ينحصر في تطبيق القانون وفق اجتهادات شرعية؟!
لو وجه فقهاؤنا كلامهم الجلل هذا للبرلمان بمجلسيه، لقلنا إن منطلقهم سديد وسعيهم حميد ومرادهم رشيد، لكنهم مع الأسف أخطأوا العنوان مع سبق الإصرار والترصد.
إن البيان النشاز يعبر في ظاهره عن حرص على حماية الشريعة، لكنه في الواقع يستند إلى فهم غير متوازن للنصوص الشرعية ومقاصدها، مع الأخذ في الاعتبار، تغير الزمان والمكان والحاجة إلى الاجتهاد في تحقيق مصالح الناس.
تعمد البيان مع الأسف، أن ينطق بما يفهم منه، أن هنالك توجيه لهم وتطويع لإرادتهم، بخلفية سياسية ونفحة تبخيسية وعمق عدواني، ربما تكون خيوطه بيد أنظمة معادية للمملكة… والله أعلم بما تخفي الصدور.
غفر الله لنا ولهم