الأستاذ عمر عباسي
تخلد بلادنا على غرار بلدان المعمور اليوم العالمي لحقوق الإنسان و هي معتزة بالمسار الحقوقي المتميز والاستثنائي الذي تعرفه، والذي وطد دعائمه ملك البلاد غداة توليه العرش، ونحن نقف على مشارف ستة وعشرون سنة من حكم الملك محمد السادس نصره الله، ما هي الحصيلة الحقوقية؟ وهل تكفينا مجلدات لعدها وحصرها؟ لا أعتقد ذلك، ولكن بمنهجية رؤوس الأقلام يمكن أن نشير إلى الملامح الكبرى للمنجز الحقوقي الوطني:
توطيد التجربة الديمقراطية في بلادنا،فمعلوم أن الديمقراطية هي البيت الشرعي للحقوق والحريات، وها هي بلادنا تتقدم الأمم في منطقتنا في هذا الطريق،واضعة دستور لم يكن يحلم به حتى غلاة الديمقراطيون، وأرست مسارا إنتقاليا ميزته التداول السلمي عبر صناديق الاقتراع على تدبير الشأن العام.
إرساء منظومة مؤسساتية قوية حامية للحقوق والحريات، عبر توطيد إستقلال السلطة القضائية، وكذا عبر تطوير النصوص المؤسسة والمنظمة للعديد من المؤسسات الرائدة في هذا المجال ، من مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان ولجانه الجهوية، والآليات المعتمدة لديه، وكذا مؤسسة الوسيط، وغيرها من المؤسسات العاملة في مجال حماية الحقوق والحريات.
تجربة العدالة الانتقالية مع كل ذلك الزخم الحقوقي والقانوني والمدني والبحثي الذي واكب عملها، والتي جعلها تجربة فريدة في العالم العربي وإفريقيا، لذلك لم يكن غريبا أن العديد من الدول طلبت الاطلاع عن كثب عن هذه التجربة المبهرة، والتي كانت من العلامات الكبرى على أن المغرب دخل فعلا حقبة جديدة قوامها المصالحة مع الماضي وجبر الضرر الفردي والجماعي في إطار الصفح الجميل.
حركة حقوقية نشطة لا تدخر جهدا في النقد وطرح بدائل على الرغم من جنوحها في رأيي المتواضع في بعض الأحيان إلى تسويد كل المنجز الحقوقي الوطني، وعلى الرغم من إختلافنا مع بعض مكوناتها ومع منهجيتها في إعداد العديد من التقارير، إلا أنه يحسب لبلادنا أنها دولة الحق والقانون، وحتى وإن لم تساير توجهات بعض الجمعيات الحقوقية التوجهات الكبرى للدولة، إلا أنها تسمح لها بحرية العمل وتصدر البيانات وتوثق ما قد يبدوا لها إنتهاكات معزولة، ولا يعتقل نشطائها ولا يتم التضييق عليهم بل يعملون في واضحة النهار، ومنها جمعيات تستفيد من وضعية المنفعة العامة، مع كل ما يتيحه هذا الوضع القانوني من آليات مالية وتنظيمية مهمة للعمل.
أجهزة إنفاذ القانون مواطنة،متشبثة باحترام القانون وبالعمل في ظله، تحاسب بصرامة كل إعتداء أو خرق معزول بحق أي مواطن، وتعمل على تنفيذ القانون في مواجهة من هم في نزاع معه، وتابعنا قبل أيام حضور مدير الشرطة القضائية لقاءا مع رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان خصص لموضوع التعذيب، وهو ما يعني إنخراط المؤسسة الأمنية الوطنية بكل قوة وإرادة في إحترام الحقوق والحريات والتقيد بمتطلبات دولة الحق والقانون.
زخم كبير تعرفه الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا بفعل المشاريع الإصلاحية الاجتماعية الملكية، وأولها الحماية الاجتماعية والدعم الاجتماعي، والتغطية الصحية، وإصلاح التعليم، ومأسسة الحوار الاجتماعي، والزيادات في الأجور وإجراءات وتدابير تاريخية إتخذتها الحكومة بتوجيهات ملكية سامية لمواجهة التضخم والحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين والمواطنات.
كل ذلك يعكس الإرادة الملكية في الارتقاء بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين والمواطنات وترصيد المكتسبات المحققة، والأرقام والمؤشرات دالة في هذا المجال.
إستمرار تطوير منظومة الحقوق الثقافية التي عرفت على عهد الملك محمد السادس إنبعاث حقيقي، عبر ترسيم الأمازيغية وإحداث المجلس الوطني للغات والثقافية المغربية وقبلها، عبر ثقافة الاعتراف التي عكسها خطاب جلالة الملك التاريخي والشجاع في أجدير، وما تبعه من إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وصولا إلى تخصيص الحكومة الحالية لإعتمادات مالية كبيرة بلغت مليار درهم لتنزيل ترسيم الأمازيغية.
طفرة عظمى في الحقوق المدنية والسياسية، تؤكدها تطورات الحياة السياسية وإنتظامية تنظيم الانتخابات ومنظومة قانونية إنتخابية جد متقدمة ومتلائمة مع المرجعية المعيارية المعمول بها دوليا والموصى بها من طرف العديد من المؤسسات السياسية الدولية، هذا ناهيك عن وضعية الحقوق المدنية التي لايمكن إلا الاعتزاز بتطويرها في بلادنا. فها هي الجمعيات تعمل والمظاهرات والمسيرات تنظم والاجتماعات والندوات تعقد، وهاهي حرية الرأي والتعبير تمارس نهارا جهارا، وأحيانا بكثير من التعسف إذا لم نقل التجني على الحرية نفسها.
ضمن هذه الملاحم الكبرى، لا يمكن إغفال إنفتاح بلادنا على المنظومة الأممية لحقوق الإنسان، لقد أصبح المغرب دولة مؤثرة في النقاش الحقوقي الدولي في العديد من المؤسسات الدولية، لعل آخر حلقات هذا المسار المتميز وهذا المجهود الكبير هو إستضافة بلادنا قبل أيام لخلوة مجلس حقوق الإنسان الذي ترأسه بلادنا حاليا، هذا علاوة على الحصيلة المهمة لتفاعل بلادنا مع آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وخاصة مجلس حقوق الانسان وإجراءاته الخاصة ومع هيئات المعاهدات.
لقد عرفت الحقوق الفئوية طفرة كبرى على عهد جلالة الملك محمد السادس، ويكفي هنا أن نستحضر حرص جلالته على النهوض بأوضاع الأسرة المغربية وفي مقدمتها وضعية المرأة المغربية، التي تمكنت رغم التحديات الكثيرة من إستعادة أدوارها المجتمعية.
هذا هو المغرب الحقوقي ياسادة، ومن أراد أن يعرف حجم هذه النعم التي أفاض الله بها علينا في عهد الملك محمد السادس حفظه الله، ماعليه إلا أن يرفع رأسه قليلا ويطالع ما يجري في العديد من البلدان شمالا وجنوبا، كي يحمد الله على أنه في المغرب، في ظل هذه الدولة العلوية الشريفة أدام الله عزها وملكها.
هل بلغنا الكمال، طبعا لا، وتكفي مطالعة التقارير السنوية للمجلس الوطني لحقوق الانسان ومؤسسة الوسيط للوقوف عند معالم التحديات والرهانات المطروحة، ولأن حقوق الانسان والنضال في سبيلها والعمل على صونها مسار لا حد له لدى جميع شعوب العالم، فإننا أيضا معنيون بصون المكتسبات ورفع التحديات، ولكن قبل كل ذلك وبعده علينا أن نعتز ونفتخر بما حققته بلادنا في هذا المجال، علينا النظر إلى الجزء المملوء من الكأس، بالدارجة خصنا نتكايسو على بلادنا، فالحساد كثر والخصوم كثر والمتربصون كثر، لذلك شيء من الإنصاف لهذه التجربة الحقوقية المغربية الفريدة والمتميزة والتي لم تتوقف عن إلهام العديد من الأمم التي اتخذتها تجربة ملهمة ونبراسا منيرا.