بقلم : حسنى أفاينو
لاشك أن الأسوار والمآثر التاريخية لها سحرها الخاص لما تختزنه من ذاكرة زمكانية تجعلها تتربع على عرش العمران أينما وجدت، لكنها تزداد جمالا ورونقا عندما تتعانق مع بيئتها الطبيعية المحيطة بها لا سيما أنواع الطيور التي تستوطنها منذ آلاف سنين، والتي تزيدها بهاء وجاذبية حتى صارت جزءا من ذاكرتها التاريخية.
إن الحفاظ على جمالية هذا المشهد الذي يمتزج فيه التاريخ والتراث بالطبيعة يستنفر المعنيين بحمايته، لكن ذلك يتم أحيانا بطريقة تجاذبية تنافرية أكثر منها تصالحية، فيشتد النزال بين حماة المآثر التاريخية والمدافعين عن البيئة، مما يدفع إلى طرح سؤال حول إمكانية إيجاد طريق ثالث يتم فيه إدماج البعدين البيئي والتراثي في التدبير بما يحقق في الآن نفسه غايتي الحفاظ على التنوع البيولوجي الخاص بالعمران من جهة وصيانة الأسوار والمآثر التاريخية من جهة ثانية؟.
وفي حديث خص به وكالة المغرب العربي للأنباء، يرى عالم الآثار ، محمد السمار، أن المقاربة ما بين عملية صيانة وترميم المآثر التاريخية بصفة عامة، والأسوار والأبراج والأبواب التاريخية، باعتبارها أكثر عرضة للاستيطان من قبل أنواع الطيور، وحماية موائل هذه الأخيرة وعدم الإضرار بها، هي “مقاربة صعبة جدا يجب التعاطي معها بحذر كبير”.
وأشار ، في هذا الصدد ، إلى أن بعض المتخصصين في ميدان التراث والآثار التاريخية يتعصبون إلى الجانب الأثري ويعتبرون الطيور مصدرا للخطر على المآثر عندما تتسبب في تدهورها وفي التعرية الميكانيكية والكيميائية لها باستعمال أرجلها ومناقيرها وغيرها، وبسبب بناء الأعشاش التي تكون أحيانا ضخمة كأعشاش اللقلاق التي تتراكم لعدة عقود وقد يتعدى وزنها 100 كلغ (يصل أحيانا إلى 200 أو 250 كلغ)، وهذا قد يسبب ثقلا إضافيا يضر بهذه الآثار، فيذهبون بذلك إلى خيار استئصال كل ما يضر بالمباني التاريخية من الكائنات الحية المستوطنة لها ” وهذا برأيي خيار متطرف للغاية، كما أن غلو حماة البيئة والحيوانات والنباتات من الجمعيات والمتخصصين في المجال غير مقبول أيضا “.
وأبرز السيد السمار، في هذا السياق، أن المقاربة المثلى بين المذهبين هو التوسط والاعتدال من خلال اعتماد حل وسط “كما جرى العمل به في تجربة حية على مستوى موقع شالة التاريخي، حيث قمنا بإزالة الأعشاش المتواجدة في الموقع بكيفية متدرجة وفي الفترة التي تكون فيها خالية من البيض أو صغار اللقلاق، بحيث لا يتم إزالة أعشاش إضافية إلا بعد الانتهاء من ترميم جانب من هذه المآثر وهكذا إلى حين استكمال أشغال الترميم”، مشيرا إلى أن هذه التجربة أثبتت أنه بعد الانتهاء مباشرة من الترميم تعود الطيور من جديد وتبني أعشاشا جديدة.
وأكد خبير الآثار أن صيرورة الحياة ما بين صيانة المآثر التاريخية وما بعدها تبقى قائمة، لأن عملية الترميم والصيانة لا توقف صيرورة الحياة البيئية بهذه المآثر سواء كانت طيورا أو نباتات أو حشرات كالنحل مثلا وغيرها.
وأوضح بأن هذه الطيور وغيرها من الكائنات الأخرى استوطنت هذه المآثر لقرون مثل موقع شالة التاريخي، فأصبحت جزءا من تاريخ الموقع ومن ذاكرة المكان، مبرزا بأن الموازنة بين الحفاظ على المآثر والحياة البيئية مطلوب كمقاربة وسطية تستحضر أهمية الجانبين؛ لكن بشرط الحرص على مراقبة ومتابعة تواجد هذه الكائنات بحذر كبير، حتى لا يحصل ضرر بمستوى متقدم يهدد هذه المآثر.
وحول مدى توفر شرط المراقبة على المستوى الفعلي أكد خبير الآثار بأن “هناك مراقبة خلال عملية الترميم، لكن ليست هناك متابعة ومراقبة ما بعد الترميم”، موضحا في هذا الصدد بأن عملية الترميم يجب أن تسبقها دراسات متقنة ومضبوطة حول الآثار موضوع الترميم، والنباتات والحيوانات التي تستوطنها وكيفية التعامل معها؛ بحيث يقوم نفس مكتب الدراسات الذي يضم مهندسين ومتخصصين في الطيور أو النباتات، بعملية المواكبة إلى جانب علماء الآثار في إطار لجنة تشرف على عملية الترميم، وبعد الانتهاء من هاته الأخيرة، تنطلق عملية الصيانة بإطلاق طلب عروض خاص بالصيانة، يشمل أمرين : صيانة المآثر التاريخية، ومتابعة تواجد الطيور ومراقبتها باستمرار، للتدخل عند الحاجة وإزالة أي خطر محتمل لها على هذه المآثر وإبطال الجانب السلبي من استغلالها للمكان .
وتابع المؤرخ أن هذه المواكبة والاحترام المتبادل للمآثر التاريخية من جهة وللبيئة من جهة أخرى يعطيان نتائج إيجابية، مضيفا بـ “أننا اليوم نحتاج إلى هذه الالتقائية في تدبير مسألة ترميم البنايات التاريخية مع الحفاظ على الحياة البيئية، بناء على قواعد علمية صرفة “.
وبخصوص ما سجلته جمعيات لحماية الطيور من تضرر أماكن استيطان الطيور بعد إغلاق الثقوب الموجودة بأسوار تاريخية أثناء عمليات الترميم، قال السيد السمار “أنه من بين المؤرخين المتخصصين في الآثار الذين يدافعون بشدة على الإبقاء على هذه الثقوب بالأسوار التاريخية وعدم إغلاقها كما حصل في شالة لأهميتها سواء من الناحية التقنية او الجمالية. فهي تمكن الجدران من التهوية وتسمح بترشيح مياه الأمطار وعدم احتباسها داخل الجدران وبالتالي تمكن من جفافها بالتعرض للحرارة، حتى لا تتسبب في التآكل الكيميائي للسور وهكذا يحصل نوع من التوازن يحمي الجدار من الهشاشة مع مرور الوقت”.
أما من الناحية الجمالية، يضيف الخبير في الآثار، فإن هذه الثقوب تضفي جمالية ورونقا على هذه الأسوار لكونها تعكس ذاكرة إبداع حضاري عريق، وتعد عنوانا للأساليب القديمة في بناء أسوار القصور والحصون كما هو الشأن بالنسبة لقصور الجنوب، مبرزا أن هذه الثقوب تعكس فلسفة البناء وتقنياته في مرحلة تاريخية معينة .
ومن جانبه، أكد الأستاذ عبد الجبار قنينبة، الباحث الإيكولوجي بالمعهد العلمي – جامعة محمد الخامس، المتخصص في علم البيئة الحيوانية – علم الطيور، أن المواقع الطبيعية والتراثية من أسوار وأبراج وبنايات تشكل مع بعضها موائل إيكولوجية فسيفسائية لأصناف الحياة وعلى رأسها الطيور التي يسهل ملاحظتها حتى من قبل غير المختصين في علوم الحياة.
وحول الآثار البيئية المترتبة عن بعض الأخطاء التي شابت عملية إعادة تأهيل الأسوار التاريخية والمتمثلة في إغلاق ثقوبها خلال عمليات الترميم أو عدم الحفاظ على وضعها الأصلي، أوضح المتخصص في علم الطيور أنه ليست هناك دراسة دقيقة ترصد آثار هذه التغييرات على طيور الأسوار بالمدن. لكنه أكد أن إغلاق هذه الثقوب التي تستوطنها أنواع من الطيور يؤدي بلا شك إلى حرمانها من موائلها ويهدد أمنها وتواجدها بالفضاء.
وتابع الخبير الإيكولوجي أنه لحسن الحظ لم يتم إغلاق جميع الثقوب، مما أبقى على تواجد بعض أصناف هذه الطيور التي تعتبر جد حساسة للمؤثرات التي تطال مواطنها وغذائها وأمنها .
وتجسيدا للدور التحسيسي للمعهد العلمي والجمعيات المدنية والبيئية ، أفاد الباحث أنه إلى جانب تنظيم بعض الأنشطة الإشعاعية والتحسيسية في مجال البيئة تم بمناسبة الذكرى المئوية للمعهد إصدار مؤلف تحت عنوان ” طيور حدائق وأسوار مدينة الرباط “(les oiseaux des jardins et des murailles de rabat ) ، وذلك بالتعاون مع جامعة محمد الخامس والمعهد العلمي وجهة الرباط سلا القنيطرة، مشيرا إلى أن هذا المؤلف يعد ثمرة بحث علمي يتضمن جردا للتنوع البيولوجي بحدائق وأسوار العاصمة، بهدف لفت انتباه العموم إلى أهمية الثراء الطبيعي والثقافي للعاصمة الرباط مدينة الأنوار في رحلة استكشافية مشوقة على أجنحة طيورها المحلية والعابرة.