الصحافي أمين بوشعيب/إيطاليا
”التاريخ يعيد نفسه“ عبارة تعنى أن الأحداث التاريخية التي مرت في الماضي، يمكن تكرارها مرة أخرى في الحاضر، ومن الممكن تكرارها في المستقبل أيضا. وذلك بسبب – كما يقول المحللون والباحثون في التاريخ- الدوافع والطبيعة البشرية هي ذاتها ونفسها لم تتغير أبدًا، فمثلا من الممكن في الماضي أن تعتدي دولة ما على دولة أخرى ثم يتم عمل صلح بينهما، ثم تجد أنه بعد ما ئة عام أو أكثر، يتكرر نفس االعتداء، لنفس الأسباب التي حدثت في الماضي، أو من الممكن أن يعقد بعض الحكام صفقات سياسية مشبوهة مبنية على مقايضة الأرض مقابل البقاء على كرسي السلطة، فيصبحوا تابعين للقوى الأجنبية، ويخضعوا لها، ثم بعد مرور مدة من الزمان قد تطول او تقصر، فيتكرر نفس الفعل، لنفس الدواعي. فيقال حينئذ إن التاريخ يعيد نفسه.
لكن مع التنبيه أن التاريخ قد يتكرر بشكل مأساوي ومخيف، وقد أظهرت الأحداث ذلك بوضوح في كثير من الأمثلة.
لو تأملنا في تاريخ العرب لوجدنا أنه مثل أي تاريخ، فيه التناقضات و التباينات، وفيه الصفقات السياسية المشبوهة، وفيه الخيانات، وفيه الانتصارات والانكسارات. فلقد تعرضت ديار العرب في المشرق والمغرب لسلسلة من الخيانات المتكررة، حتى لكأن تاريخها سيل لا ينقطع منها.
بيد أن ما يثير الدهشة والتعجب في حوادث خيانة الحكام في ذلك التاريخ، هو أنها جاءت من أقرب المقربين بعد ميراث الأجداد المشّرف في ساحات الوغى، ولما تجف دماؤهم في سبيل نصرة دينهم وحماية أوطانهم؛ بل والادهى من ذلك والامّر أن تكون ثمرة هذه الخيانة تسليم مدينة مقدسة بحجم القدس التي كانت قِبلة المسلمين الأولى.
إذ يسرد التاريخ قصصا عديدة حول ذلك. منها حين قام سلطان مصر الأيوبي الكامل محمد بن العادل بتسليمها عام 635هـ/1237م إلى
الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني دون التضحية بقطرة دم واحدة في سبيل حمايتها، ومنها حين سلمها السلطان الناصر داود ابن المعظم سنة 637هـ/1239م، للصليبيين، وذلك سعيًا وراء مصلحته الشخصية وكي يظل الصليبيون على تحالف معه ضد ابن عمه سلطان مصر الصالح أيوب.
وإذا تأملنا في التاريخ الحديث نجد أن مدينة القدس لا تزال تتعرض للخيانة من قبل الحكام العرب والمسلمين من أجل حفظ مناصبهم وكراسيّهم .
فتاريخيا، كانت القضيةالفلسطينية (وفي قلبها مدينة القدس) محو ًرا للعديد من الصراعات والتوترات، وكانت معيارا للحكام العرب، فمنهم من تقاعس، في تقديم الدعم الكافي ومنهم من خان القضية، وارتمى في أحضان الصهاينة، ومنهم من استخدم القضية لتحقيق مآربه الخاصة .
وإن من أشهر الخيانات التي يذكرها التاريخ، ما وقع -في رمضان سنة 558هـ/1163م- بين القائد العسكري ضرغام بن عامر اللخمي، والوزير شاور بن مجير السعدي ، إذ استطاع ضرغام انتزاع منصب الوزارة الفاطمية.
فما كان من “شاور” إلا أن انطلق صوب دمشق ليطلب العون والغوث من السلطان الزنكي نور الدين محمود، الذي أكرمه ثم دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر، ويكون وعزم على مساعدته في مقابل أن “يعود إلى منصبه، ويكون لنورالدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر ويكون معه من أمراء الشام َمن يقيم معه في مصر، ويتصرف هو بأوامر نور الدين واختياره”؛ كما يقول المقريزي في ” اتعاظ
الحنفا بأخبار األئمة الفاطميين الخلفا”: “على أن شاور انقلب على ذلك الاتفاق مع نور الدين، وأمعن في الخيانة حين تحالف مع الصليبيين فطمعوا في الستيالء على مصر” وطبقا للمقريزي؛ فإنه ما جاء عام 564هـ/1169م إلا وقد “تم ّكن الفرنج من ديار مصر وحكموا فيها ُحكماً جائراً، ور َكبوا المسلمين بالأذى العظيم، وقد تيقنوا أنه لا حامي للبلاد، وتبيّن لهم ضعف الدولة، وانكشفت لهم عورات الناِس” .
ولولا أن السلطان نور الدين أرسل -مجددا وعلى وجه السرعة- القائديْن أسد الدين شيركوه، وصالح الدين األيوبي ِلهذا التحالف والقضاء على شاور والوجود الصليبي؛ لاحتل الصليبيون مصر كما احتلوا فلسطين وسواحل الشام.
وإن من أشهر الخيانات الحديثة، ما جاء على لسان دينيس روس الدبلوماسي األمريكي السابق، في مقال كتبه لصحيفة “نيويورك تايمز” « الأمريكية، بعد عشرين يوما على “طوفان األقصى”، حيث ذكر فيه أنه يساند الحرب على غزة و القضاء على حماس، مؤكدًا »أنها رغبة قادة عرب، وليس فقط إسرائيل والولايات المتحدة«. وفي مقاله ذلك شرح الأمر أكثر، عندما قال إنه » خًلل الأسبوعين الماضيين، عندما تحدث ُت مع مسؤولين عرب في أنحاء مختلفة من المنطقة – أعرفهم منذ
فترة طويلة- قال لي كل واحد منهم: إنه لا بد من تدمير حماس«وهو ما أكدته “كل وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية التي أجمعت على أن الحكام العرب ابلغوا قادة أوروبا وأمريكا أنهم يرغبون بشدة في تدمير حماس والقضاء عليها.
بكل تأكيد الخبر صادم، ومن الصعب جدّا تصديقه، لكنه حقيقة، ف(القضية الفلسطينية وفي قلبها قضية القدس) لم تعد موجودة على أجندة الحكام العرب ألنهم قد تخلوا عن فلسطين، وقدموها عربون محبة والولاء لسرائيل.
فلاش: سألني أحد األصدقاء متعجبا: أين الشعوب العربية، وأين الجيوش العربية، وأين العلماء، وأين النخب العربية مما يحدث في غزة؟
قلت كل هذه الأسئلة ليس لها إل جوابا واحدا، وهو أن الأنظمة العربية تاجرت في القضية الفلسطينية مع إسرائيل، والجيوش والعلماء والنخب تاجروا مع الأنظمة. وأما الشعوب العربية فهي تقف متفرجة، في موقف شبيه بموقف قطعان البقر الوحشي التى تتفرج على من يُفترس منها .