
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

لا يمكن قراءة تعليمات رئيس النيابة العامة، هشام بلاوي، بإحالة جميع تقارير المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة لوزارة الداخلية، التي تتضمن اختلالات ذات صبغة جنائية، على الفرق الوطنية والجهوية للشرطة القضائية والدرك الملكي، إلا باعتبارها لحظة فارقة في مسار العدالة المالية ببلادنا، على اعتبار أن الأمر لا يتعلق بتفعيل إجراء روتيني أو تحريك ملف إداري، بل بتغيير عميق في منطق التعاطي مع المال العام، ومع ملفات ظلت لسنوات حبيسة الرفوف أو مجرد مادة للتسريبات الإعلامية التي تنتهي دون أثر.
فمنذ تعيينه من طرف جلالة الملك محمد السادس، وجد بلاوي نفسه أمام تركة ثقيلة من الملفات الراكدة، بعضها برفوف رئاسة النيابة العامة نفسها، والبعض الآخر بمكاتب الوكلاء العامين للملك بمحاكم جرائم الأموال على شكل تقارير افتحاص دامغة، وبحوث قضائية منتهية منذ سنوات، دون أن يتم اتخاذ أي قرار بشأنها. من بينها ملفات موصوفة بالثقيلة، منها ما يخص جماعات ترابية ومؤسسات عمومية، تداولت المصادر حول وجود اختلالات مالية وتدبيرية خطيرة لم تُفعّل بشأنها المساءلة المطلوبة.
هذه المعطيات تطرح اليوم سؤالًا قديمًا جديدًا حول ما إن كانت النيابة العامة، في صيغتها السابقة، جزءًا من مشكلة الإفلات من العقاب؟ وهل كانت السلطة القضائية، التي يُفترض أن تكون حاجز الصد الأخير ضد العبث بالمال العام، عاجزة أم متواطئة؟ فتح الملفات الآن، بعد تجميدها لسنوات، ليس فقط لحظة محاسبة للمسؤولين عنها، بل أيضًا محاسبة ضمنية لمن كانوا يمتنعون عن المحاسبة نفسها، أو يؤجلونها إلى أجل غير مسمى، على اعتبار أن السكوت في هذه الحالة، ليس حيادًا، بل مشاركة غير مباشرة في إدامة مناخ الإفلات من العقاب.
وبالتالي لا يخلو هذا التحرك الجديد من دلالات سياسية ومؤسساتية سواء داخليًا، في محاولة لإنقاذ ما تبقى من ثقة المواطن في المؤسسات الرقابية، التي يرى أنها صارت تُصدر تقارير “للزينة”، بلا أثر ولا تفعيل. أو خارجيًا، في تقاطع مع ما يحتاجه المغرب من تعزيز صورته الدولية في المؤشرات المرتبطة بالشفافية ومحاربة الفساد، خاصة مع اقتراب تنظيمه لفعاليات دولية كبرى مثل كأس العالم 2030، والتي لا يمكن تدبيرها بنهج الصفقات المشبوهة أو المجاملة الإدارية.
لكن رغم كل الإيجابية التي تحملها هذه الخطوة، فإن الرهان الحقيقي ما زال قائمًا خاصة فيما يتعلق بترجمة التعليمات إلى متابعات فعلية، وهنا نطرح السؤال، هل سيُحاكم فعليًا مسؤولون كبار وردت أسماؤهم في تقارير رسمية؟ أم سنكتفي ببعض الملفات الثانوية لتسكين الغضب الرمزي؟ لأن التجربة أثبتت أن تحريك الملفات لا يعني أبدًا الوصول إلى المحاسبة، وأن بعض المحاكمات تُستعمل أحيانًا لتصفية الحسابات أو امتصاص الضغوط، دون نية صادقة لإحداث القطع المطلوب.
غير أن ما يجعل هذا القرار مختلفًا، هو أنه لا يقتصر على ملف أو اثنين، بل يمس منظومة كاملة من التدبير، تمتد من الجماعات الترابية، إلى المؤسسات العمومية، إلى مكاتب تدبير المشاريع، بل وحتى آليات صرف الميزانيات العامة. لذلك فإن أي انتقائية في التحقيقات ستُفرغ القرار من معناه، وأي تباطؤ في وتيرة الإجراءات سيُعيد الوضع إلى نقطة الصفر.
اليوم من حق المواطنين أن يطالبوا بمعرفة مآل كل درهم تم تبذيره، وأن يعرفوا ما إذا كانت المحاكم ستفتح أبوابها فعلًا أمام من عبثوا بميزانيات التنمية، واستعملوا المال العام كغنيمة حزبية أو شخصية، وأيضا من حقهم أن يروا الفاسدين يُحاسبون، لا فقط في نشرات الأخبار أو البلاغات الرسمية، بل أمام قضاة مستقلين، وفي محاكم علنية، وبأحكام تعيد الاعتبار للدولة نفسها.
وبالتالي فالمطلوب الآن ليس فقط محاكمة فاسدين بما اقترفوه في حق الوطن، بل ترسيخ مبدأ مفاده أن القانون لا يرحم، ولا يستثني، وأن لا أحد فوق المساءلة مهما كان موقعه أو نفوذه، اعتبارا أن تحويل تقارير الرقابة إلى أداة قانونية للمحاسبة هو جوهر دولة الحق، وامتحان فعلي لاستقلالية القضاء. ويبقى الخوف الأكبر ليس من فتح الملفات، بل من أن تُفتح لتُغلق، وتُحرّك لتُسكَت، ويُستعمل القضاء في الواجهة دون أن يُفعل في الجوهر.
إن تعليمات البلاوي وفي هذه الضرفية أكبر من ملف، وأبعد من لحظة، إنه سؤال الدولة وقرار بداية مرحلة، فهل تقرر فعلاً البدأ في المعركة ضد الفساد من أعلى الهرم؟ وهل نمتلك الإرادة السياسية والمؤسساتية لنذهب بهذه المعركة إلى النهاية؟ الأكيد لن نحتاج إلى إجابة رسمية وعاجلة، فقط نريد أن نرى الفعل وتنزيله، وساعتها فقط نصدق أن مقولة “لا أحد فوق القانون” لم تكن مجرد شعار.