في المغرب، لا يكاد يفل عام 2024 إلا وقد ترك خلفه قضايا عاصفة استحوذت على اهتمام الرأي العام وأثارت جدلاً محتدماً على مختلف المستويات، أبرزها كان التعديلات المقترحة على مدونة الأسرة، التي أعلن عنها وزير العدل عبد اللطيف وهبي، إلى جانب مبادرة التسوية الطوعية للضريبة لدى الأشخاص الذاتيين التي طرحتها المديرية العامة للضرائب، إلا أنه ورغم أهمية هذه الملفات، اختارت الحكومة الصمت كعادتها بالاعتماد على استراتيجية الهروب إلى الأمام، ما أطلق العنان لفوضى عارمة قادتها شائعات المؤثرين وموجات التضليل الإعلامي.
وما إن أعلن وزير العدل عن التعديلات المقترحة على مدونة الأسرة، حتى تحولت الساحة الافتراضية إلى بركان من التفاعلات المتناقضة، فالمؤثرون، بمعرفتهم السطحية وسعيهم المحموم وراء الإعجابات والمشاهدات، اختزلوا القضية في صور نمطية ساذجة مصورين المرأة شيطان والرجل ضحية، وهكذا، انتقلت نقاشات مدونة الأسرة من ساحة البحث عن حلول تشريعية عادلة إلى مسرح للفكاهة والتضليل، قاده شباب أغلبهم لم يختبر تجربة الزواج أصلاً.
وفي ظل هذا المشهد العبثي والمريب، كان على الحكومة أن تأخذ زمام المبادرة، وكان لزاماً على المسؤولين شرح فلسفة التعديلات وأهدافها بلغة واضحة، تفند الأكاذيب وتطمئن المجتمع، لكن للأسف وككل مرة لم يترك الصمت الحكومي فراغاً فقط، بل صنع أرضاً خصبة لتأويلات خطيرة ومناقشات بلا بوصلة، ترك وستترك ندوباً عميقة في النسيج الاجتماعي.
ولم تكن قضية التسوية الطوعية للضريبة بمنأى عن هذا السيناريو الكارثي، هنا أيضاً، اختارت الحكومة أن تتوارى خلف ستار الصمت، بينما كان المواطنون يتخبطون بين أخبار عن “أرقام فلكية” و”إرهاب ضريبي” بثّته حسابات عشوائية دون أي سند من الواقع.
في وقت كان المواطن بحاجة ماسة إلى خطاب حكومي صريح يوضح التفاصيل، ويبسط الإجراءات، ويشرح الغايات، تُرك المجال مرة أخرى للمؤثرين، الذين لم يتورعوا عن تضخيم الأرقام ونشر الرعب، كان يمكن لبيان رسمي مبكر أن ينهي كل هذا اللغط، لكنه لم يأتِ ولن يأتي بناءً على تجارب مماثلة التزمت فيها الحكومة الصمت عن سابق إصرار.
إننا نعيش اليوم في زمن لم تعد فيه الحكومات قادرة على الاعتماد على الصمت كخيار استراتيجي. فمع ملايين المغابة المتصلين بالشبكات الاجتماعية، أصبح النقاش الافتراضي قوة مؤثرة تتجاوز أي حدود تقليدية، ورغم إدراك الجميع أن “اقتصاد النقرات” هو المحرك الأساسي لصناعة المحتوى الرقمي، فإن ترك هذا الفضاء دون تأثير ودون توجيه مسؤول لن يؤدي سوى إلى إرباك المجتمع، وفتح الباب أمام خطاب لا تحكمه القيم ولا يراعي المصلحة العامة.
لم يعد مقبولاً أن يكتفي المسؤولون بإلقاء قنبلة تشريعية أو تدبيرية في مرمى المجتمع ثم ينسحبون في صمت، تاركين الناس يواجهون سيل الشائعات وحدهم، بل نحن بحاجة إلى تواصل حكومي يتسم بالشفافية والسرعة والعمق، بحاجة إلى خطاب يشرح، يفسر، ويعطي المواطنين الأدوات لفهم التحديات بعيداً عن التضليل والمعلومات الكاذبة.
الحكومة اليوم أمام مسؤولية تاريخية، فإما أن تتعلم من هذه التجارب وتدرك أن غيابها عن الساحة الإعلامية لا يعني إلا تسليم زمام النقاش لمن لا يفقه، وإما أن تستمر في إدارة ظهرها لصوت الشارع، لتصبح شريكاً غير مباشر في تكريس الفوضى والعبث.
ويبقى السؤال المطروح، هل يعي السادة الوزراء أن الصمت في زمننا هذا لم يعد حكمة؟ وهل يدركون أن قضايا الناس تحتاج إلى صوت حكومي رزين ومسؤول يسبق الشائعات لا أن يأتي بعدها؟ وهل يدرك السادة الوزراء أن الصمت لم يعد خياراً بل فوضى؟ فهل يسمعنا أحد؟