
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

من المؤلم أن نسمع من إعلامي له حضور واسع في المشهد العمومي، تشبيهاً مجحفاً ومهيناً لمدينة مكناس، العاصمة الإسماعيلية، بوصفها بـ”الزائدة الدودية” في جسد المغرب، اعتباراً إلى أن الأمر لا يتعلق برأي شخصي عابر، بل بخطاب صادر عن شخصية إعلامية يفترض فيها الوعي بوزن الكلمات وتأثيرها على الرأي العام. فالإعلامي، حين يتحدث من منبر ما، لا يمثل نفسه فقط، بل يصبح صوته مؤثراً في تشكيل الصور الذهنية والرمزية عن المدن والمجتمعات. وبالتالي لا يمكن اعتبار وصفه مجرد زلة لسان أو نكتة عابرة، بل هو اختزال مهين لتاريخ مدينة عريقة كانت عاصمة لإمبراطورية، ومفخرة في سجل الحضارة المغربية.
لكن قبل أن نعيد التأمل في هذا الوصف الجارح، علينا أن نستحضر أولاً ما تمثله مكناس فعلاً في وجدان المغاربة وتاريخهم. فمكناس ليست زائدة يمكن استئصالها حين تمرض، وليست مجرد بقعة على الهامش، بل هي قلب نابض بالأمجاد، مدينة الملوك، ومهد الدولة الإسماعيلية، وعنوان لحضارة تمتد من أبوابها التاريخية إلى روح أهلها الطيبين. فكيف يُعقل أن تُختزل اليوم مدينة بمثل هذا الثقل التاريخي والرمزي في تعبير سطحي لا يحترم شعور أهلها، ولا مقامها في الذاكرة الوطنية؟
ولأن الكلمات الجارحة لا تأتي من فراغ، بالنظر إلى أن لها جذوراً في واقع مُؤلم، تبقى الحقيقة المُرّة أن مكناس لم تُغتصب فقط في الكلام، بل قُتلت سياسياً وتنموياً حين انتُزعت منها صفة “عاصمة الجهة” بعد أن كانت مركز جهة مكناس تافيلالت، وتم تنصيب فاس عاصمة لجهة فاس مكناس، في خطوة لا تفسير لها سوى الرغبة في إبعاد المدينة عن محيط القرار والتنمية، ثم تأتي خطوة ترحيل كل شيء منها، من الإدارات والمشاريع والاستثمارات، وكأن المدينة أُدينت بالصمت وحكم عليها بالتهميش.
وهكذا، أُغلقت الأبواب في وجه المشاريع الكبرى، وغادرت مؤسسات كانت تُحيي المدينة وتضمن لها جزءاً من الحضور. ومرة بعد مرة، تحوّلت مكناس من مدينة استراتيجية إلى مجرد تابعة في هامش جهة تُدار من مدينة أخرى.
فمَن تواطأ على مكناس؟ من قرر أن يُطفئ أنوارها؟ من اختار أن تُمحى من خارطة الاستثمار والتخطيط؟ من خطّط لتحويلها إلى مدينة منسية، رغم أنها تحضن مآثر تاريخية تتجاوز ما يوجد في فاس ومراكش والرباط مجتمعة؟ إنها المدينة التي أرادها المولى إسماعيل عاصمة لمغرب قوي ومهاب، والتي استقطبت معمار أوروبا قبل أن تحلم به مدن أخرى.
ويظل الجواب على هذه الأسئلة غامضًا، لكن المؤكد أن هذه التصرفات ليست مجرد غفلة أو خطأ عابر، بل إنها سياسة ممنهجة تُمارس على المدينة، وتهدف إلى تقليص دورها وتهميش مكانتها في هذا الوطن.
غير أن الخطورة لا تكمن فقط في وصفها بـ”المصرانة الزايدة”، بل في أن يكون هذا الوصف امتداداً لسياسة تواطأ فيها الإعلام مع القرار، والنظرة النمطية مع الإقصاء المؤسساتي، والسطحية مع الإهمال الممنهج. ويبقى من واجبنا اليوم أن نقولها بصوت عالٍ، كفى تهميشاً، كفى تحقيراً، كفى تسطيحاً لهويتنا. مكناس ليست زائدة.. بل روح في جسد الوطن، وإذا مرضت، فالمرض في الجسد كله، وليس فيها وحدها. مكناس ستبقى، لأنها مدينة لا تموت.. بل يموت من يُنكر فضلها ومكانتها.