أمين بوشعيب/ إيطاليا
في السنوات القليلة الماضية فقدت فرنسا الكثير من مقومات قوتها ومواقع ارتكازها في القارة السمراء، وذلك بسبب سوء التقدير السياسي، والارتباك في تدبير السياسة الخارجية تجاه إفريقيا من قِبل قصر الإليزيه، ولما أفاق القادة الفرنسيون على وقع تراجع نفوذ دولتهم في هذه القارة، في ظل تنامي الرفض الشعبي والسياسي لذلك النفوذ، حاولوا إصلاح تلك الأخطاء. وذلك من خلال إعادة تأسيس علاقاتها مع إفريقيا.
لكن هل يمكن إعادة بناء أو ترميم علاقات فرنسا مع مستعمراتها في إفريقيا على أنقاض التاريخ الاستعماري الفرنسي الطويل لهذه الدول؟ وهل فرنسا مستعدة لمراجعة عقيدة الوصاية على مستعمراتها في إفريقيا باعتماد شراكة حقيقية؟ وهل يمكن للرئيس الفرنسي الحالي أن يلعب دور المنقذ القادر على الحفاظ على النفوذ الفرنسي في إفريقيا واستعادة صورة القوة العظمى المرتبطة به.
عندما شغل إيمانويل ماكرون منصب الرئاسة الفرنسيّة في الرابع عشر مايو 2017 أعلن عن سعيه الطامح إلى تجديد العلاقة بين فرنسا والقارة الأفريقية، بل إلى تطويرها على مستوى جميع الأصعدة الاقتصادية والثقافية والرياضية والبيئية وذلك من خلال تقييم الأولويات الأساسية وتحقيقها من خلال مختلف الالتزامات، تخص: تيسير الانتفاع بالتعليم والتعليم العالي، ولا سيّما من خلال مضاعفة التنقل، وتقديم الدعم لإقامة المشاريع والابتكار، وإتاحة استحداث تصور مشترك جديد، ولا سيّما من أجل تعزيز الروابط المتعلقة بالذاكرة، ومواكبة القارة التي تتصدر عملية الانتقال إلى الممارسات المراعية للمناخ، والعمل على إعادة صياغة المساعدة الإنمائية من أجل إقامة علاقة شراكة.
لكن، وبينما كان ماكرون يتحدث في قمة مجموعة العشرين ب “هامبورغ ” في نفس العام 2017، سأله مراسل من ساحل العاج عن احتمال سياسة مشابهة لمشروع مارشال الاقتصادي الأمريكي يمكن تنفيذه في أفريقيا، أجاب قائلا: «المشاكل التي تواجهها أفريقيا اليوم مختلفة تماما وهي حضارية» ثم تابع بالحديث عن النساء الأفريقيات اللواتي ينجبن «سبعة أو ثمانية أطفال».
وبغض النظر عن هذا التصريح الذي لقي تعليقات سلبية على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث اتّهم رواد تلك المواقع التواصلية، الرئيسَ الفرنسيّ، بالعنصرية وبأنه مؤيد للأفكار والصور النمطية، فيبدو أن إعادة تأسيس فرنسا لعلاقاتها مع إفريقيا، أصبح شيئا شبه مستحيل، على الأقل في عهد ماكرون، نظرا لعدة اعتبارات منها:
أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يفتقد إلى الحنكة السياسية في التعامل مع الشأن الإفريقي، ذلك أن خطابه وسعيه “تجديد العلاقة مع القارة الإفريقية” يصطدم بالعيوب الموروثة من إفريقيا الفرنسية، على حدّ تعبير صحيفة “ليبراسيون” (liberation) الفرنسية.
ثمّ إن وسم الماضي الاستعماري الفرنسي المروِّع، الذي لا يزال يلاحقها وتدخلها السياسي والعسكري المستمر في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية، جعل شعور الأفارقة المعادي لها يتزايد ويتطور هناك، رفضا لعقيدة الوصاية الفرنسية على إفريقيا
بالإضافة إلى أن فرنسا لم تعد هي اللاعب الأساسي والوحيد في أفريقيا، بل أصبح حضورها هناك يلقى منافسة قوية من طرف الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتركيا والصين. بل إن فرنسا لم تعد -بجهودها الذاتية- قادرة على مضاهاة نفوذ منافسيها المتعاظم في إفريقيا.
إلى ذلك، فالجولة الإفريقية التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرا، اتسمت بالفشل الذريع، نظرا للاعتبارات التي أشرنا إليها، ونظرا لبلوغ الغضب الشعبي الإفريقي مداه تجاه “التعامل الأبوي” لقصر الإليزيه مع الدول الإفريقية. وبهذا الصدد أشارت عدة وسائل إعلام بأن زيارة الرئيس الفرنسي لعدد من بلدان القارة السمراء، قد قوبلت برفض واسع النطاق من لدن المنظمات غير الحكومية، التي انتقدت تدخل باريس في الشأن الداخلي للمنطقة؛ ما دفعها إلى تنظيم مجموعة من الأشكال الاحتجاجية الداعية إلى طرد فرنسا بصفة نهائية من إفريقيا. وما لم تغير فرنسا من تعاملها إزاء الدول الإفريقية فإن الاستراتيجية الجديدة التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي ماكرون ستبوء بالفشل.
في مقابلة خاصة مع إحدى القنوات التلفزية كشف رئيس الوزراء المالي شوغل كوكالا مايغا، تفاصيل الانسحاب الفرنسي من بلاده، وقال إن لدى بلاده معلومات دقيقة وأدلة على أن بعض الإرهابيين في مالي كانوا على تواصل مع فرنسا. وأشار مايغا أن مالي “لم تتخلَّ عن التعاون مع فرنسا، ولكن الفرنسيين أرادوا أن يفرضوا علي الماليين ما يقومون به وما يعتقدونه” وأضاف بلغة فيه تحدّ كبير وثقة في النفس: “إننا نقول لهم إن هذا العصر قد ولّى، فنحن نختار شركاءنا ونختار ما نقوم به” وهو هنا يلمّح إلى أن فرنسا قررت مغادرة مالي بعد مجيء حكومة لا تروق لها. وبالمقابل، أوضح رئيس وزراء مالي بإن بلاده تعتبر روسيا شريكا يعتمد عليه، مؤكدا أن روسيا تدافع عن مصالح بلاده وأن الصورة الأمنية تغيرت على الأرض بفعل التعاون مع روسيا.
يبدو أن رئيس الوزراء المالي شوغل كوكالا مايغا، قد توفق في توصيف العلاقة بين فرنسا ومالي، وهو توصيف لا يخصّ العلاقة المالية الفرنسية فقط، بل تخصّ علاقة فرنسا بكل دول القارة السمراء، وهي بداية انتهاء الهيمنة الفرنسية على إفريقيا، فهل ستنزلق فرنسا نحو العالم الثالث كما أكّد ذلك الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك الذي قال:”إن فرنسا بدون إفريقيا ستنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث”
فلاش: فيما يخص الأزمة الصامتة التي شابت العلاقات المغربية الفرنسية، فيبدو أن ماكرون قد فقد البوصلة وتجاوز كل الحدود وأعراف ديبلوماسية رؤساء الدول، وخرب كل ما يمكنه ان يترك خط العودة الى ما قبل الازمة، فقد هاجم المملكة المغربية سرا عبر دولته العميقة وسخر البرلمان الأوربي لتشويه صورة المملكة، بسبب الحضور الاقتصادي المغربي في غرب أفريقيا وفعالية المغرب من خلال أدوات الاقتصاد جعل فرنسا -التي تعتبر أفريقيا امتدادا طبيعيا لها- تستشعر خطر هذا التوجه المغربي، فجن جنون ماكرون ، لان يدرك أن تطور وازدهار بلده مبني على استنزاف ثروات القارة الافريقية وتسخيرها لينعم الفرنسيون بالازدهار والتقدم دون أي جهد يذكر.
لكن الأزمة والهجوم الفرنسي على المغرب وعلى رموزه السياسية والرياضية، أبانت عجز البرلمان المغربي الذي لم يتجرّأ على التصدي والرد على البرلمان الأوروبي بالشكل المطلوب، ولم نسمع مواقف قوية سواء من رئيس الحكومة او رئيسي الغرفتين التشريعيتين، ولم نسمع عن دعم اللاعب الدولي المغربي أشرف حكيمي، من قِبل رئيس الجامعة الملكية لكرة القدم، الذي يتعرض لحملة ممنهجة من طرف الإجهزة الفرنسية، وذلك لتشويه سمعته بسبب تضامنه مع الشعب الفلسطيني، وبسبب إشارته المشهورة التي لوّح بها أمام العالم إلى دول الغرب: أن كفى من استغلال دول العالم واحتقارهم.
لقد آن الأوان أن يطالب المغربُ فرنسا بموقف واضح من قضية الصحراء، وذلك تفعيلا لخطاب الملك محمد السادس، الذي أكد أهمية الموقف من قضية الصحراء المغربية كقاعدة ترسى على أسسها العلاقات والشراكات بين المغرب وباقي دول العالم، ومن ثمّ مطالبتها بضرورة الخروج من وضعية “المنزلة بين المنزلتين” ، وإلا فالحكومة المغربية مدعوّة بدون تأخير أو مماطلة، إلى إعادة النظر في جميع العلاقات التي تربطها بفرنسا، وكذا إعادة تقييم المصالح والمنافع التي تجنيها هذه الأخيرة من تواجدها في المغرب، خاصة في الاقتصاد والثقافة.