
الصحافي أمين بوشعيب/ إيطاليا

في زمن مشحون بالتحديات المتراكمة من تداعيات اقتصادية إلى أزمات اجتماعية وهيكلية ينتظر المواطن من حكومته حلولاً مبتكرة وقرارات شجاعة تنهض بالواقع وتستجيب لطموحات الحاضر والمستقبل. إلا أن المتابع للشأن الحكومي في المغرب، يلاحظ أن وزراء الحكومة المغربية ليسوا أصحاب رؤية، بل مجرد موظفين تنفيذيين يتعاملون مع الملفات بروح إدارية باردة، لا بروح إصلاحية جريئة. ليزداد إلحاح السؤال حول أدائهم، ومدى قدرتها على إبداع حلول حقيقية تتجاوز حدود التدبير التقليدي. فحين يغيب الابتكار وتُستنسخ نفس السياسات في التعليم، الصحة، التشغيل، والسكن، يصبح من المشروع أن نتساءل: أين الابتكار في السياسات العمومية؟ وهل أصبحنا نعيش زمناً تحوّل فيه الوزراء إلى مجرد موظفين؟
يرى المراقبون للحالة المغربية أن العديد من القطاعات الحكومية تعاني من الركود الفكري والتقني، حيث يتم إعادة تدوير نفس المقاربات القديمة التي أثبتت محدوديتها. لا مشاريع كبرى تُحدث تحولاً نوعياً، ولا مبادرات سياسية تقطع مع منطق التسيير اليومي. وغالباً ما تُقدم البرامج الحكومية كنوايا أكثر منها خططاً تنفيذية واضحة بزمن ومؤشرات قياس.
وما يزيد من قتامة المشهد في الحالة المغربية، أن عدداً من الوزراء يتم اختيارهم بناءً على خلفيات تقنية أو توازنات ظرفية، لا انتماءات فكرية واضحة أو مشاريع سياسية متكاملة. وهذا لا يُعيب في حد ذاته، لكن الخطر يكمن حين تتحوّل التكنوقراطية من كفاءة مهنية إلى جدار بارد أمام المبادرة، خاصة حين لا تكون مصحوبة بإرادة إصلاحية واضحة ومحاسبة صارمة على النتائج. حيث يفضّل بعض الوزراء تجنّب المبادرة، خوفاً من الوقوع في الخطأ، خاصة في ظل بيئة سياسية وإعلامية لا ترحم. وهكذا يصبح الهمّ الأول هو الاستمرار في المنصب لا ترك بصمة فيه. وهذا يؤدي إلى نوع من “الجمود الحكومي” يغيب فيه التفكير الاستراتيجي والمقاربات المبتكرة.
بالنسبة للمواطن المغربي، فالحكومات المتعاقبة تتشابه لديه من حيث الخطاب والممارسة. نفس الوعود تتكرر، ونفس الأعذار تُعاد. الشيء الذي يعمق أزمة الثقة ويزيد من الهوة بين المواطن والفاعل السياسي، ويطرح سؤالاً وجودياً: هل نعيش زمن المسؤول بدون مسؤولية، والمنصب بدون مضمون؟
إن المرحلة الراهنة لا تحتمل ترف التسيير الروتيني، بل تتطلب قيادات حكومية شجاعة، مبتكرة، ومتصالحة مع المخاطرة. وزراء قادرين على التفكير خارج الصندوق، لا موظفين يتقنون تدبير الملفات الورقية. فبدون إرادة سياسية حقيقية، وجرأة في اتخاذ القرار، سيبقى الأداء الحكومي في دائرة التكرار والرتابة، فيما تتسع فجوة الانتظارات الشعبية.
خلال المجلس الوزاري الذي ترأسه الملك محمد السادس، بالقصر الملكي بالرباط، يومه الإثنين 12 أيار/ مايو 2025، حرص العاهل المغربي على استفسار بعض الوزراء حول مآل بعض الملفات، كما حرص في نفس الوقت على إصدار توجيهاته السامية لهؤلاء الوزراء خاصة وإلى جميع أعضاء الحكومة بصفة عامة.
إن حرص الملك محمد السادس على إصدار توجيهات للوزراء يحمل دلالات سياسية ومؤسساتية عميقة، ويعكس طبيعة النظام السياسي المغربي ودور المؤسسة الملكية في توجيه السياسات العمومية ومراقبة عمل الحكومة، وغالباً ما تأتي التوجيهات الملكية كرد فعل على تباطؤ أو تقصير أو سوء تنفيذ بعض البرامج الحكومية، أو عند غياب التنسيق بين القطاعات. وهي بمثابة تنبيه مباشر بضرورة التسريع في الإنجاز وتجاوز الحسابات الضيقة أو البيروقراطية المعطلة. فمثلاً، حين يدعو الملك إلى “التحلي بالجرأة والابتكار”، فذلك يكون عادة رداً على جمود في الأداء أو ضعف في المبادرة من طرف بعض الوزراء أو الإدارات. كما أن التوجيهات تكون وسيلة لضمان أن الحكومة تشتغل ضمن رؤية استراتيجية واضحة، وليست مجرّد فاعل تقني أو تنفيذي. أما عندما يُصدر الملك تعليمات بضرورة “تقييم أداء الوزراء”، أو يوجّه ملاحظات بخصوص التأخر في تنفيذ مشاريع، فإن ذلك يهدف إلى فرض الانضباط السياسي والمؤسساتي وضمان احترام الزمن التنموي. وفي بعض الأحيان، قد تكون التوجيهات مقدمة لتغييرات في التشكيلة الحكومية أو في مناصب المسؤولية. وحين يُحسّ المواطن ببطء الإصلاحات أو عدم وفاء الحكومة بوعودها، يصبح تدخل الملك من خلال التوجيهات وسيلة لطمأنة الشعب بأن القضايا الاجتماعية تحظى بمتابعة مباشرة من أعلى سلطة في البلاد.
المغرب مقبل في السنة الموالية على انتخابات تشريعية، وهي الانتخابات التي ستفرز حكومة جديدة بوزراء جدد. نتمنى ألا تكون كسابقاتها، إذ ما الجدوى من حكومة لا تملك الجرأة؟ وما نفع وزير لا يستطيع أن يهز السكون بسياسات جديدة؟ لأن القيادة الحكومية ليست تسييراً فنياً للمؤسسات، بل مسؤولية تاريخية تستدعي الشجاعة والابتكار، وتفرض على من يتحملها أن يدرك جيداً أن وجوده في المنصب ليس امتيازاً، بل عبءٌ ثقيل لا يُبرره إلا الأثر. ففي مرحلة دقيقة كهذه، بات واضحاً أننا لا نحتاج إلى وزراء يُتقنون لغة البلاغات، بل إلى قادة حقيقيين يُحسنون قراءة التحولات، يُدركون انتظارات الشارع، ويملكون من الجرأة ما يكفي لكسر النمطية وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
فلاش: ما يُقال عن الوزراء يمكن تعميمه على البرلمانيين، إذ في كل ديمقراطية حقيقية، يُعتبر البرلمان المؤسسة التي تعبّر عن إرادة الشعب، تمارس الرقابة على الحكومة، وتشرّع القوانين الكفيلة بتنظيم الحياة العامة. لكن في الحالة المغربية، ورغم توفر كل الهياكل الدستورية واللوجستيكية، لا يزال البرلمان يُعاني من عجز مزمن في القيام بأدواره الجوهرية، مما يثير تساؤلات جدية حول فعالية التمثيل السياسي وجدوى المشاركة في الانتخابات. ولا يمكن للمؤسسة البرلمانية أن تستعيد دورها إلا إذا استعاد النائب علاقته بالمواطن، ومارس مهامه باستقلال وشجاعة ومسؤولية.