إذا كان من السهل في إطار حرية الرأي والتعبير المكفولة للجميع، والحوار الفكري المحمود، الاستمرار في انتقاد مشروع قانون المسطرة المدنية، وهو أمر إيجابي للإشارة، بالنظر لما ينتج عن النقاش القانوني عموما من آراء تغني وتجود المقتضى القانوني موضوع النقاش، فإن المطالبة، بناء على اعتبارات مهنية ودون موجب سليم، بسحب مشروع قانون المسطرة المدنية من البرلمان رغم المصادقة عليه من طرف ممثلي الأمة بمجلس النواب، والاعتراض على إحالته على مجلس المنافسة لإبداء رأيها الاستشاري في بعض مقتضياته، يستوجب أن يتحلى الجميع بالمسؤولية العلمية لتقديم قراءات جادة للمقتضيات الدستورية والقانونية موضوع النقاش، والتقيد بما نصت عليه الوثيقة الدستورية، وما جاء في الصكوك الدولية، التي تحدد بشكل واضح عددا من المفاهيم المتصلة بالعدالة، وحقوق الإنسان عموما، كالمساواة، والتمييز، بالنظر إلى أن الاحتجاج بعدم احترام هذه المفاهيم لا يمكن أن يكون خارج ما هو مقرر في الوثيقة الدستورية، وفي قرارات القضاء الدستوري، وفي غيرها من الوثائق الأممية التي يكتسي الكثير منها طابع الإلزام، باعتبارها الإطار المعياري الأممي المتوافق عليه من طرف المجتمع الدولي.
ولا يخفى أن حرصنا على مواكبة هذا النقاش، والتفاعل معه بكل جدية ومسؤولية، ما هو إلا تجسيد لأهمية الحوار الفكري البناء، وتعزيز للنقاش المجتمعي الذي يكون مؤطرا بالدستور والقانون، وتكون غايته الأساسية مقارعة الآراء والحجج بناء على أسس علمية، بغية الوصول إلى هدف أسمى، هو تجويد النص التشريعي بما يحقق المصلحة العامة، ويعزز حقوق المواطن وعموم المرتفقين على قدم المساواة في ظل دولة المؤسسات.
والأكيد أن الآراء المعبر عنها بهذا الشأن، بتعدد مصادرها وتنوع زوايا مقارباتها واختلاف قيمتها القانونية وترتيب أولوياتها، تخلق مجالا خصبا لنهل الأفكار وتقاسم التجارب والممارسات الفضلى، غير أن هذا النقاش لا يعد، في أي حال من الأحوال، بديلا عن اختصاصات المحكمة الدستورية في مراقبة مدى مطابقة القانون للدستور، ولا مصادرا لحقها في ممارسة اختصاصاتها المخولة لها بموجب الدستور، وهي الممارسة التي أصبحت جزءا من المشهد التشريعي ببلادنا، وهو ما يعتبر انتصارا لقيم الديمقراطية وضمانة لحماية الحقوق والحريات والدفاع عن الدستور، وترسيخا لحكم القانون، وهو على كل حال نقاش ينسجم مع ما ذهب إليه بعض الفقه، عندما اعتبر أن المحكمة الدستورية يجب ألا تكتفي بإعلان الحقيقة حول معاني الدستور فقط، ولكن يتعين عليها أن تجعل القانون أيضا “حقيقة حية” تمتثل إليها المؤسسات والهيئات والمواطنون والمجتمع برمته وتحرك ممارساتهم الاجتماعية.
إن استمرار بعض الأحكام المسبقة المتداولة أخيرا حول خرق مشروع قانون المسطرة المدنية لبعض مبادئ حقوق الإنسان، لا يمكن بأي حال أن يسهم في تقديم قراءة علمية موضوعية لبسط وجهات النظر، وفقا للإطار المعياري المسلم به في القانون الدولي لحقوق الإنسان، مما يفقد هذه الأحكام أهميتها العلمية، إذ إن الاحتجاج بخرق مبادئ متعارف عليها عالميا لا يكون مقنعا إلا بالانضباط للمفاهيم المقررة في هذه الوثائق وفي مختلف الاجتهادات القضائية والفقهية، وهو الأمر الذي لم يهتد إليه في عدد من الكتابات والآراء المعبر عنها أخيرا في هذا الصدد.
بل إن منها من ذهب إلى القول إن المغرب ليس في حاجة إلى قانون جديد، وإن قانون المسطرة المدنية الصادر سنة 1974 كان كافيا رغم مرور ما يناهز نصف قرن على إصداره، مفضلين إبقاء الأمر على ما كان عليه، والركون إلى ملاءمة المتغير والمستجد باعتماد التفسير والتأويل، والسعي من منظور ضيق إلى اعتماد منهج التوجيه بالغاية بدل التوجيه والتأطير بالنص التشريعي المعتمد ديمقراطيا في إطار دولة المؤسسات والسلط المستقلة، في محاولة لفرض تفسيرات خاصة للحقوق الدستورية، لا يمكن اعتمادها دعامة لمشاريع تشريعية حكيمة لافتقارها إلى التأصيل السليم، والتسبيب المقنع والموضوعية في التحليل التي تستحضر مصالح جميع المتدخلين والمعنيين بسير مرفق العدالة.
إن وصف عمل الهيئات التي أشرفت على إعداد مشروع قانون المسطرة المدنية، على اختلاف مشاربها، بكونه مجرد مبادرة تشريعية من حكومة مطمئنة لأغلبيتها داخل البرلمان لتكريس “التغول التشريعي”، هو قول يتناقض مع قيم المجتمع الديمقراطي، الذي يحتكم إلى الدستور، والذي تكون فيه المبادرة التشريعية فضيلة، وممارسة المؤسسات والسلطات لاختصاصاتها الدستورية نجاح للديمقراطية.
إن قيام السلطة التنفيذية بإنتاج مشاريع قوانين، تعبير صريح عن حيويتها وتحملها للمسؤولية والاستعداد للدفاع عن قناعاتها في إطار الملاءمة التي يمنحها إياها الدستور، ولا تخضع في إطاره لمراقبة المحكمة الدستورية؛ لأنه مجال يرتبط بالسياسة التشريعية تملك فيه السلطة التنفيذية كامل الحرية؛ لأنه مجال سياسي.
ومن منطلق الوعي بأهمية مواصلة الانخراط في النقاش العمومي المتعلق بمشروع قانون المسطرة المدنية، وحرصا على تنوير الرأي العام، فقد ارتأينا أن نستمر وفق المنهج نفسه القائم على الحوار، في التفاعل مع الآراء المعبر عنها بهذا الخصوص، وذلك من خلال الوقوف مرة أخرى على بعض ما حملته من توجهات، من أجل قراءتها قراءة هادئة في ضوء الدستور، والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، علما أن مجموع النصوص موضوع النقد، في الكتابات والآراء المعبر عنها في هذا السياق، يمكن اختزالها في عشر مواد من مجموع مواد المشروع التي تصل إلى 644 مادة.
والتزاما بكل ما تقدم، فقد ارتأينا الحديث (أولا) عن مفهوم السلطة التقديرية للمشرع في ضوء قرارات القضاء الدستوري، ونطاق هذه السلطة، وذلك من أجل المساعدة على تقريب بعض المفاهيم المتعلقة بحدود السلطة التقديرية للبرلمان، بغية رفع اللبس الحاصل في معاني عدم الدستورية، على أن نقف (ثانيا) على تحديد مفهوم التمييز وفق الدستور والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، لنبرز جوانب القصور في توظيف هذا المفهوم للقول بعدم دستورية بعض مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية، على أن نخلص (ثالثا) إلى التفاعل مع النقاش المثار بخصوص مدى دستورية وقانونية طلب رأي مجلس المنافسة في بعض النصوص المتعلقة بموضوع ممارسة المهن القانونية الحرة.
أولا: السلطة التقديرية للمشرع في ضوء قرارات القضاء الدستوري (الملاءمة)
إن مفهوم السلطة التقديرية للبرلمان يستند في فقه القانون العام، من جهة أولى، إلى طبيعة وظيفة السلطة التشريعية، التي تتطلب مساحة من حرية التقدير تمكنها من مواجهة ما يعرض عليها من أمور وقضايا تحتاج إلى تدخلها. كما يستند، من جهة ثانية، إلى طبيعة حركة الحياة التي تتطور بصفة دائمة، وتفرض إقرار قواعد قانونية لمواكبة كل التطورات، ومواجهة الإشكالات الواقعية، التي تستوجب تدخل المشرع بصفته صاحب الاختصاص الأصيل في التشريع، دون المس بالحقوق والحريات الأساسية المضمونة دستوريا، وبالتالي لا بد من الاعتراف له بجانب من حرية التقدير، التي تعرف بالسلطة التقديرية للمشرع أو الملاءمة، وفقا للمبادئ المستقر عليها في القضاء الدستوري.
إن هذا المفهوم دفع الفقه إلى استبعاد تفسير النص الدستوري باعتباره وثيقة ثابتة في اللفظ والمعنى، ودعا بدلا عن ذلك إلى النظر إلى الدستور بما يحويه من قيم ثابتة يجب أن تطبق بمرونة على الظروف المتغيرة دوما، فممارسة الحق في الولوج إلى القضاء، كقيمة ثابتة، لا يمكن أن ينظر إليها بالصورة التي كانت تمارس بها خلال سنة 1913 في ظل أول قانون للمسطرة المدنية أو سنة 1974 بمناسبة تعديل قانون المسطرة المدنية، بل يتعين النظر إلى هذا المقتضى الدستوري باستحضار كيفية تطبيق القيم الكامنة خلف النص الدستوري اليوم، في ظروف اختلفت كثيرا عن سنوات 1913 و1974، وربما لم تكن في حسبان المشرع الدستوري عند وضعه للدستور، فمن كان يتصور آثار الثورة الرقمية في مجمل المجالات، بما فيها مجال القانون والعدالة.
ولا شك أن مسؤولية المحكمة الدستورية تكمن في قدرتها على الاستدلال على احترام القانون للقيم الثابتة المتضمنة في الدستور في ظل الظروف المتغيرة بالاستناد إلى معياري القيم والتناسب. والذكاء المنشود للسلطة التنفيذية صاحبة المبادرة التشريعية، يكمن في تحقيق الملاءمة بين القيم الدستورية الثابتة والاحتياجات التشريعية المتغيرة، في إطار مهامها بتدبير الشأن العام، على اعتبار أن مجال الملاءمة التشريعية يبقى مجالا خاصا وحصريا للسلطة التنفيذية، وهو ما سيساعد من جهة أولى على جعل القانون يحقق على نحو أفضل الأهداف الموضوعية للدستور، ومن جهة أخرى على خلق تشريعات ديمقراطية قادرة على العمل في احترام كامل للحقوق والحريات، وضمان دولة المؤسسات.
وقد أكد القضاء الدستوري أهمية السلطة التقديرية للمشرع في عدد من قراراته، من بينها القرار رقم 11/817، الصادر عن المجلس الدستوري بتاريخ 13 أكتوبر 2011، الذي جاء فيه ما يلي: “وحيث إنه ليس من صلاحيات المجلس الدستوري التعقيب على السلطة التقديرية للمشرع في اختيار نوعية التدابير التشريعية التي يرتضيها سبيلا لبلوغ أهداف مقررة في الدستور طالما أن ذلك لا يخالف أحكام هذا الأخير…”.
وهو التوجه نفسه الذي أكدته المحكمة الدستورية العليا المصرية، إذ جاء في قرارها الصادر بتاريخ 02/01/2011، في القضية رقم (5) ما يلي: “… ذلك أن الأصل في سلطة المشرع في موضوع تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية، وذلك ما لم يقيد الدستور ممارستها بضوابط محددة تحد من إطلاقها…”.
فالسلطة التقديرية للمشرع تقوم على مبادئ عدة، من بينها مبدأ عدم امتداد رقابة القضاء الدستوري إلى بواعث القانون، وهذا المبدأ استقر عليه قضاء المحكمة العليا الأمريكية منذ حكمها الصادر عام 1810 في قضية “فلشر ضد بك” (Fletchre vs Peck)، إذ أكدت في عدد من أحكامها أنه إذا كان القانون مستوفيا لكافة الشروط والأشكال القانونية، فإن المحكمة لا تستطيع أن تؤيد أحد الخصوم في طعنه بعدم دستوريته، بحجة أن القانون صدر عن بواعث غير شريفة أثرت في بعض أعضاء السلطة التشريعية التي سنت القانون.
ذلك أنه إذا كان القانون في ظاهره، وكما يتضح من نصوصه، غير متعارض مع الدستور، ويدخل في السلطات التي يسمح لسلطة التشريع بممارستها، فإنه لا يمكن للقضاء الدستوري، وفقا لهذا المبدأ، البحث عما وراء النصوص من بواعث مشروعة أو غير مشروعة تكون قد دفعت السلطة التشريعية إلى إقرار هذا القانون.
وفضلا عن ذلك، فإن تقدير الحاجة إلى القانون ومدى ضرورته يدخل في اختصاص السلطة التشريعية وحدها بوصفها عنصرا من عناصر السياسة التشريعية التي لا يمكن للمحاكم الدستورية التدخل فيها، وقد أكد القاضي هولمز على هذا المبدأ في قضية لوتشنر ضد نيويورك عام 1905، بقوله: “إن القانون قد يكون ملائما أو غير ملائم، ولكن كل هذا ليس لنا شأن به طالما أنه يصدر في حدود الدستور”.
لقد استقرت المحكمة العليا الأمريكية على أن تتخذ من ظاهر النص التشريعي أساسا لفحص دستوريته، معتبرة أنه إذا كان ظاهر القانون يدخل ضمن السلطات التي يسمح بها الدستور للسلطة التشريعية، فإنه لا يمكن لها التنقيب والبحث في مدى ملاءمته وفق ما عبر عنه القاضي هولمز.
إن القضاء الدستوري كان حاسما في عدد من قراراته، التي لا يتسع المجال للاستشهاد بها، في منح المشرع مساحة هامة لممارسة سلطته التقديرية، حتى يتمكن من الاضطلاع بدوره الأصيل في التشريع، وإقرار التدابير التي يراها مناسبة لتنزيل الحقوق الواردة في الدستور، وتنظيم المجالات التي يختص بها، وتحديد اختياراته التشريعية التي لا رقابة للقضاء الدستوري عليها، إلا ما كان مخالفا لصريح الدستور، ومصادرا للحقوق والحريات التي يضمنها، وذلك وفق المقتضيات الدستورية والقانونية المنظمة لاختصاصه في البت في مدى مطابقة القوانين للدستور، علما أن قراراته نهائية ولا تعقيب عليها. وفي هذا السياق، نستحضر ما قاله الفقيه روبرت جاكسون عندما علق على وصف نهائية أحكام المحكمة الدستورية بالقول: “إن المحكمة ليست نهائية لأنها لا تخطئ، بل هي [لا تخطئ] فقط لأنها نهائية، وقضاتها معصومون من الخطأ فقط بقدر ما تكون كلمتهم نهائية”.
وتكمن أهمية الضمانة الأساسية لقضاة المحكمة الدستورية أيضا في كونهم ليسوا بالضرورة سياسيين، فهم بالدرجة الأولى خبراء متخصصون وملمون بالقانون، ذلك أنهم إذا ركنوا في تقديرهم لبناء أحكامهم على المنظور السياسي، فيمكن لوجهات نظرهم أن تنقلب لتصبح خاطئة بشكل كامل لكون المتحكم الأساسي في العمل السياسي هو متحول بطبيعته.
ثانيا: تحديد مفهوم التمييز في الدستور والمعايير الدولية لحقوق الإنسان وإبراز جوانب القصور في توظيف هذا المفهوم
إن الآراء المعبر عنها بخصوص خرق مبدأ المساواة، وإقرار نوع من التمييز في مشروع قانون المسطرة المدنية، بين المواطنين على أساس المال، وبين المواطن والإدارة، وبين الجهات، يظهر حجم اللبس الذي وقع فيه أصحاب هذه الآراء في تحديد معاني التمييز الواردة في الدستور، وفي القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ولمناقشة مفهوم التمييز وعلاقته بتحقيق مبدأ المساواة، لا بد من الوقوف بداية على المقتضيات الدستورية التي تناولته، من جهة أولى، وتحديد مفهومه وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان، من جهة ثانية، على أن نبرز من جهة ثالثة جوانب القصور في توظيف هذا المفهوم.
1- مفهوم التمييز وفق الدستور:
أكد دستور المملكة المغربية في عدد من مقتضياته على مبدأ المساواة وحظر كل أشكال التمييز، إذ نص في ديباجته على التزام المملكة المغربية بحظر ومكافحة كل أشكال التمييز بسبب الجنس أو اللون، أو المعتقد، أو الثقافة، أو الانتماء الاجتماعي، أو الجهوي، أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي مهما كان”.
كما نص في الفقرة الأولى من الفصل 6 منه على أن “القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاصا ذاتيين، أو اعتباريين، بمن فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له”.
وللتأكيد على عزم المملكة المغربية على القضاء على كل صور التمييز، نصت الفقرة الأخيرة من الفصل 19 من الدستور على إحداث هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز، حددت مهامها، في الفصل 164 منه، في السهر على احترام الحقوق والحريات المنصوص عليها في الفصل المذكور.
وإذا كان حظر جميع أشكال التمييز هو الذي يكفل تحقيق مبدأ المساواة باعتبارهما عنصران مترابطان، فإن التساؤل المطروح: ما هي أشكال التمييز المحظورة دستوريا؟
لقد أكد القضاء الدستوري في عدد من قراراته على أن مبدأ المساواة لا يقيد المشرع، اعتمادا على أسس موضوعية، في إقرار تمييز معين بين المراكز التي ينظمها. وفي هذا الصدد، أكدت المحكمة الدستورية العليا المصرية في حكمها الصادر في القضية رقم 36، للسنة القضائية السابعة عشرة بتاريخ 2 يناير 1999، على ما يلي:
“… إن مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون، ليس مبدأ تلقينيا جامدا منافيا للضرورة العملية، ولا هو بقاعدة صماء تنبذ صور التمييز جميعها…”.
وقد سبق لمحكمة التحكيم البلجيكية أن أكدت التوجه نفسه في قرارها الصادر تحت رقم 1366/1992، الذي جاء فيه:
“… إن القواعد الدستورية المتعلقة بمساواة البلجيكيين وعدم التمييز بينهم، لا تستبعد إمكانية إرساء معاملة مختلفة لفئات معينة بين المتقاضين…”.
فانطلاقا مما تقدم، يتضح أن مفهوم التمييز المنصوص عليه في الدستور، لا يمكنه أن يقيد من السلطة التقديرية للمشرع لإقرار اختيارات تشريعية تتلاءم مع الحاجيات العملية، التي تفرض سن قواعد قانونية لمواكبة كل التطورات، ومواجهة الإشكالات الواقعية، والتي قد يترتب عنها إرساء معاملة مختلفة لفئات معينة من المتقاضين.
2- مفهوم التمييز وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان
إذا كان من المعلوم أن كل الصكوك الدولية لحقوق الإنسان أجمعت على مبدأ المساواة وحظر كل أشكال التمييز، فإن الكتابات والآراء المعبر عنها في سياق النقاش العمومي المتعلق بمشروع قانون المسطرة المدنية بخصوص احتواء المشروع على عدد من المقتضيات التمييزية، لا تمت بصلة للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، المحددة لمفهوم التمييز الوارد في الدستور، ذلك أنه بالرجوع إلى الشروح التي أوردتها عدد من الآليات الأممية لحقوق الإنسان، في إطار دورها المتعلق بتفسير مواد الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، يتضح بشكل واضح حجم اللبس الحاصل.
وفي هذا الصدد، يمكن التذكير، على سبيل المثال لا الحصر، بالتعليق العام رقم 20 الصادر عن اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ماي 2009، التي أكدت من خلاله أن التمييز يتمثل في أي تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل، أو غير ذلك من أوجـه المعاملة التفاضليـة المبنية بشكل مباشر أو غير مباشر على أسباب تمييز محظورة، بقصد إبطـال أو إضعاف الإقـرار بالحقوق أو التمتع بها أو ممارستها على قـدم المساواة، أو بما يؤدي إلى ذلك، ويشمـل التمييز أيضـاً التحريض على التمييز والمضايقة.
فالملاحظ من خلال التعليق العام المذكور، وغيره من التعليقات الكثيرة الواردة في هذا الصدد، أن أساس التمييز يقوم على التفاضل المبني على أسباب محظورة، كالأسباب المشار إليها في دستور المملكة مثل اللون، أو الجنس، أو المعتقد، أو الثقافة، أو الانتماء الاجتماعي، أو الجهوي، أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي مهما كان…، والتي تحول دون تمتع الشخص بحقوقه في جميع الحالات، ويكون جوهرها المس بالكرامة الإنسانية، وخلق نوع من التمييز بين أفراد الأسرة البشرية، وهي أسباب تحول دون ممارسة الحق في التقاضي للمدعي والمدعى عليه على حد سواء.
3: جوانب القصور في توظيف مفهوم التمييز
بعد البسط الموجز لمفهوم التمييز في الدستور والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، الذي يتضح أنه لا يمت بأي صلة للتمييز المعبر عنه في بعض الآراء، لا بأس أن نتساءل: أين يتجلى التمييز في المقتضيات المنظمة لممارسة الحق في الاستئناف مثلا؟ وما هو أساس التمييز في ممارسة هذا الحق؟
إن مفهوم التمييز المحظور، وفق ما بيناه أعلاه، ينصرف إلى أن التمتع بالحق لا يكون إلا على أساس تمييزي سلبي يكون الهدف منه بالأساس ممارسة نوع من التمييز تجاه بعض مكونات المجتمع، كاللون أو الجنس، أو الدين، أو الأصل القومي…، وهو الأمر الذي لا يوجد ضمن مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية، التي لا تقيم أي تمييز وفق ذلك المعنى، ذلك أن المدعي يمكن أن يكون مدعى عليه في نفس نوع القضية؛ فأين هو التمييز المحظور دستوريا؟
ورفعا للبس الحاصل، والغلط الواقع في استعمال المفاهيم في غير محلها، من المهم التذكير بأن التشريعات الوطنية والمقارنة تقر في العديد من المقتضيات تمييزا معينا بين المراكز التي تنظمها، بناء على أسس موضوعية لا تؤدي إلى مخالفة المبادئ الدستورية والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن القانون التنظيمي للأحزاب السياسية نص في مادته الرابعة على بطلان تأسيس حزب سياسي يرتكز على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جهوي أو بصفة عامة على أي أساس من التمييز أو المخالفة لحقوق الإنسان. وتجسيدا لمبدأ المساواة، خول القانون المذكور، في المادة 19، لكل المواطنات والمواطنين البالغين سن 18 سنة شمسية كاملة، الحق في الانخراط بكل في حرية في أي حزب سياسي مؤسس بصفة قانونية، إلا أنه استثنى في المادة 23 منه بعض الفئات من الحق في تأسيس الأحزاب السياسية أو الانخراط فيها.
وتطبيقا للفصل 132 من الدستور الذي ينص في فقرته الثانية على أنه “… تحال إلى المحكمة الدستورية القوانين التنظيمية قبل إصدار الأمر بتنفيذها، والأنظمة الداخلية لكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين قبل الشروع في تطبيقها، لتبت في مطابقتها للدستور…”، تمت إحالة القانون التنظيمي المذكور على المجلس الدستوري، (المحكمة الدستورية حاليا) فلم يصرح في قراره رقم 11/818 الصادر بتاريخ 20 أكتوبر 2011، م.د في الملف عدد 11/1172، بعدم مطابقة المواد المذكورة للدستور أو مخالفته، وهو ما يؤكد انسجام توجه القضاء الدستوري المغربي مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان في تحديد معنى التمييز المحظور دستوريا.
وفضلا عن ذلك، فإن الدستور نفسه ينص في عدد من فصوله على إمكانية اتخاذ تدابير تمييزية لفائدة فئات عمرية، أو مكونات مجتمعية، مثل ما نص عليه في الفصل 17، المتعلق بمشاركة المغاربة المقيمين بالخارج في الانتخابات، الذي جاء فيه، “… يحدد القانون المعايير الخاصة بالأهلية للانتخاب وحالات التنافي، كما يحدد شروط وكيفيات الممارسة الفعلية لحق التصويت، وحق الترشيح انطلاقا من بلدان الإقامة…”، وكذا ما نص عليه في الفصل 33 الذي جاء فيه أن على السلطات العامة اتخاذ تدابير خاصة لفائدة الشباب، فضلا عما جاء في الفصل 34 الذي نص على أنه: “تقوم السلطات العمومية بوضع وتفعيل سياسات موجهة إلى الأشخاص والفئات من ذوي الاحتياجات الخاصة…”.
ويبقى للمحكمة الدستورية متى عرض عليه الأمر وفقا لمقتضيات الفصل 132 من الدستور أعلاه، أن تقول كلمتها في الموضوع المرتبط بالتمييز، أو غيره من المواد أو الفصول التي قد تثير نقاشا حول مدى مطابقتها للدستور، وإن لم تكن موضوع طعن ولم ترد في مذكرة الطعن، فإن ذلك لا يقيد المحكمة في رقابتها، خاصة وأنها نصوص متصلة وتمثل نسقا عاما، وليس في الدستور أو القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية أو النظام الداخلي ما يمنعها من ذلك.
أما إمكانية الطعن وفق مقتضيات المادة 133 من الدستور الممنوحة للمتقاضين أو المحامين، فإن المحكمة الدستورية تختص بكل دفع يقوم به أحد الأطراف متى كان له نزاع قضائي، غير أنه يقيد المحكمة في رقابة مدى مساس مقتضيات المادة أو المقتضى القانوني المطعون فيه بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، ولا يبسط يد المحكمة لمراقبة باقي المواد الأخرى التي لم يطلها الطعن.
ثالثا: النقاش القانوني بخصوص مدى دستورية وقانونية طلب رأي مجلس المنافسة في المهن القانونية الحرة
من المستغرب أن يواجه الموقف المتعلق بإحالة مشروع قانون المسطرة المدنية على مؤسسة دستورية لتقديم استشارتها بنوع من الاعتراض، انطلاقا من قناعات شخصية أو مهنية، بعيدة عن روح الدستور وفلسفته القائمة على تشجيع الممارسات الدستورية، التي من شأنها تعزيز قيم الحكامة والإنصاف، وتقوية دور المؤسسات في ممارسة أدوارها الدستورية.
إذ إن الاعتراض على إحالة مشروع قانون المسطرة المدنية بدعوى عدم اختصاص مجلس المنافسة، لتقديم الاستشارات بخصوص المهن القانونية الحرة، ومنها مهنة المحاماة، وحصر مجال اختصاصه في حالة التركيز الاقتصادي وحرية الأسعار، يتعارض بشكل صريح مع ما نصت عليه مقتضيات المادة الثانية من القانون رقم 13-20 المتعلق بمجلس المنافسة، التي خولت بوضوح تام للمجلس صلاحيات استشارية هامة إلى جانب سلطته التقريرية في ميدان محاربة الممارسات المنافية لقواعد المنافسة ومراقبة عمليات التركيز الاقتصادي كما هي معرفة في القانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، إذ نصت المادة المذكورة في فقرتها الثانية على أن المجلس يكلف بإبداء رأيه بشأن طلبات الاستشارة كما هو منصوص عليه في هذا القانون والقانون المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة، وإصدار دراسات بشأن المناخ العام للمنافسة، قطاعيا ووطنيا.
وقد أكد مجلس المنافسة على هذا الاختصاص بشكل صريح في عدد من قراراته وآرائه، ومنها ما جاء في حيثيات رأيه الصادر تحت عدد ر/3/2019 وتاريخ 26 دجنبر 2019 حول مشروع المرسوم رقم 2.17.481 المتعلق بتحديد مبلغ أتعاب الموثقين وطريقة استيفائها:
“… إن مهنـة التوثيق مهنة خاضعـة لمنطـق السـوق فـي إطـار المنافسـة الحـرة والشـريفة، وذلك وفقا لما جاءت به المادة الأولى من القانون رقـم 32.09 المتعلـق بتنظيـم مهنـة التوثيـق”، التي تنص على أن “التوثيـق مهنـة حـرة تمـارس وفـق الشـروط وحسـب الاختصاصات المقـررة فـي هـذا القانـون…”، مؤكدا على “… خضوع مهنة التوثيق لمنطق السوق شـأنها فـي ذلـك شـأن باقـي الأنشطة الاقتصادية الأخرى، بـل وباقـي المهـن الحـرة المقننـة كالمحاميـن، والأطباء، والمهندسـين…”.
وفضلا عن ذلك، فقد نصت المادة الخامسة على أنه: “… يدلي المجلس برأيه بطلب من الحكومة في كل مسألة متعلق بالمنافسة…”.
فالملاحظ أن هذه المادة لم تقيد اختصاص مجلس المنافسة في إبداء رأيه في نوع معين من المنافسة. وبالتالي، فإن القول بعدم اختصاصه في إبداء رأيه حول المهن القانونية الحرة يعتبر تقييدا غير مبرر من الناحية القانونية، فضلا عن كونه يتعارض مع الهدف من إحداث هذه المؤسسة الدستورية الذي يكمن في تنظيم المنافسة الحرة وضمان الشفافية، ومحاربة الممارسات المنافية لقواعد المنافسة، كما يتعارض أيضا مع ما استقر عليه عمل مجلس المنافسة نفسه. بل أكثر من ذلك، يمكن التساؤل: هل ممارسة مهنة المحاماة وغيرها من المهن القانونية الحرة تخلو من المنافسة؟
وفضلا عما تقدم، فقد نصت المادة السابعة من القانون نفسه على أن المجلس يستشار وجوبا من طرف الحكومة في مشاريع النصوص التشريعية أو التنظيمية المتعلقة بإحداث نظام جديد أو بتغيير نظام قائم يهدف مباشرة إلى فرض قيود كمية على ممارسة مهنة أو الدخول إلى سوق، أو إقامة احتكارات أو حقوق استئثارية أو خاصة أخرى في التراب المغربي.
من الواضح إذن أن المهن القانونية الحرة، بما فيها مهنة المحاماة، تخضع في ممارسة أنشطتها لمنطق المنافسة الحرة والشريفة، الذي يتنافى ومنطق الاحتكار أو الاستئثار، وهو ما يخول لمجلس المنافسة، وفق ما بيناه أعلاه، الحق في إبداء آرائه الاستشارية بخصوص بعض المقتضيات القانونية المنظمة لممارسة هذه المهن، وفقا للمساطر القانونية الجاري بها العمل.
وعموما، تبقى مبادرة الإحالة على مجلس المنافسة، من أي جهة مختصة قانونيا، من الممارسات الدستورية التي لا تحتاج إلى النقد بقدر ما تحتاج إلى التثمين، لا سيما أن تقوية دور المؤسسات الدستورية لا يمكن أن يكون إلا في مصلحة الوطن والمواطن وعموم المرتفقين، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على أهمية تعزيز دور المحكمة الدستورية في مراقبة القوانين العادية أيضا، وذلك من أجل تكريس الرقابة الدستورية على القوانين التي تثير نقاشا مجتمعيا.