
بقلم: ذ. انسي بشارة سلوى
لم يكن إلياس، ابن مدينة العرائش، يتجاوز السابعة عشرة حين قرّر أن يقلب حياته رأسًا على عقب. كان شابًا متفوّقًا في دراسته، محبوبًا بين أصدقائه، محاطًا بكل ما يجعل مراهقته هادئة ومستقبلَه واعدًا. لكن شيئًا ما في داخله كان يغلي، شعور غامض بالضياع والرغبة في الهروب نحو “حلّ” بدا له أبعد ما يكون عن الواقع: أوروبا.
كانت الفكرة في البداية مجرّد مزحة بين أصدقاء الحيّ. “نقوم بجولة، نرى البحر، نعود…” لكن المزحة تحوّلت إلى قرار، والقرار إلى رحلة، والرحلة إلى جحيم طويل.
ترك إلياس كل شيء خلفه: دفاتره الممتلئة بالعلامات الممتازة، زملاء الدراسة الذين حلموا معه، والدته التي لم تتوقّف عن الدعاء، وشوارع العرائش التي عرف فيها أولى خطواته. مضى نحو المجهول، ظانًّا أنّ الضفة الأخرى ستفتح له أبواب النور.
لكن الباب الذي وجده لم يكن سوى باب العصابات.
قادوه إلى غابات بعيدة، حيث عاش شهورًا طويلة بين الخوف والجوع والبرد، ينتظر دوره وسط طوابير من القاصرين والبالغين، رجالًا ونساءً وأطفالًا. كان يرى العيون المنطفئة، يسمع القصص التي وجدت نفسها سجينة للابتزاز والعنف، ويشعر بثقل السؤال الذي ظلّ يطارده: هل كان يجب أن آتي؟
وفي صباح مُعتم، وقف إلياس أمام القارب. خشب مهترئ، محرك يصدر أنينًا مخيفًا، ورجال يحملون سلاحًا يفرضون الصمت على الجميع. لم يُسمح لأحد بالكلام، ولا بالتراجع، فالقائد لا يعرف الرحمة، والبحر لا يعطي وعودًا لأحد.
انطلق القارب وسط أمواج عالية، تتلاطم كوحوش غاضبة. كان إلياس يشعر بأن قلبه يُسحق في صدره، بأن أصابعه بالكاد قادرة على التشبث بالحافة. صرخات الأطفال، بكاء النساء، تردّد الرجال… لكن كل ذلك غرق في هدير البحر.
ثم حدث ما كان يخشاه الجميع. انقلب القارب.
اختلطت الأجساد بالماء، وتحولت الآمال إلى خوف قاتل. حاول إلياس أن يسبح رغم الألم، رغم ثقل ملابسه، رغم صوت البحر يبتلع من حوله أرواحًا لم تكتمل بعد. تمسّك بقطعة خشب من بقايا القارب، قطعة صارت خيط حياته الوحيد.
ولساعات، بقي عالقًا بين السماء والماء، يشاهد المنظر المروع أمامه: أطفال يصرخون، رجال يحاولون النجاة، وآخرون اختفوا دون أثر.
لكن القدر كان رحيمًا به تلك المرة.
وصل إلياس إلى الشاطئ الإسباني، منهكًا، مصابًا بحروق قاتلة في مناطق من جسده بسبب محرك القارب، وجروح أخرى خلفتها رحلة العبور. التقطته الشرطة، ونُقل إلى مركز القاصرين في اسبانيا، حيث بدأت رحلة علاج جديدة، جسدية ونفسية.
هناك، داخل جدران المركز، كان إلياس ينظر إلى السقف كل ليلة، يسأل نفسه:
هل كنت أبحث حقًا عن الحل… أم كنت أهرب من حياة لم أمنحها فرصة كافية؟
لم يجد الجواب بعد.
لكن ما يعرفه أنه عاد من الموت وهو يحمل قصة تستحق أن تُروى، ودرسًا لن ينساه ما دام حيًّا.
بدأ إلياس مرحلة جديدة من حياته داخل مركز القاصرين. كانت مشاعره مختلطة: فرحٌ خفيف يلامس قلبه لأنه وصل إلى أوروبا، حلمه الذي ظل يطارده لسنوات، وفي المقابل خوفٌ ثقيل من المجهول ومن حياة لم يتوقع يومًا أن يواجهها وحيدًا.
كان يظن، مثل كثير من المراهقين، أن الحياة في أوروبا أشبه بقطعة حلوى: حرية بلا حدود، نوم حتى ساعات متأخرة، التسوّق من الماركات العالمية، غرفة خاصة، وإقامة يحصل عليها في أسبوعه الأول.
لكن الواقع… كان شيئًا آخر تمامًا.
أول صدمة تلقّاها كانت اللغة.
إلياس الذي كان متفوّقًا في الإنجليزية وجد نفسه أمام لغة لم يعرف عنها شيئًا: الإسبانية. فجأة شعر بأنه طفل صغير في عالم لا يفهمه، وأن كل ما تعلمه في المدرسة تركه عاجزًا هنا، في المكان الذي كان يظنه خلاصه.
وعندما دخل المركز للمرة الأولى، اجتمع بهم المربّون وأخبروه بكل القوانين: مواعيد صارمة للنوم، الاستيقاظ، الأكل، الخروج، والأنشطة. قوانين لا تقبل نقاشًا. بالنسبة لإلياس، بدا الأمر وكأنه حكم بالسجن لمدّة غير محدّدة.
أصبح يفكر في الهروب، في العودة إلى منزله الدافئ في العرائش.
بدأ يتخيل وجه أمه وهي توقظه بيدها، رائحة طعامها الشهي، ضحكات إخوته تحت الطاولة، صوت أبيه وهو يحكي عن يوم عمله… كان يتخيل كل ذلك ثم يفتح عينيه ليجد نفسه محاطًا بوجوه تائهة، عيون فقدت بريقها، شباب يأكلون بلا شهية، يبلعون اللقمة ولا يعرفون طعمها.
ومع مرور الأيام، كان إلياس يكتشف أجزاء جديدة من عالم المركز وعالم القاصرين الذين يسكنونه. قصص ثقيلة لا يستطيع عقل شاب في السابعة عشرة أن يتحملها: من هرب من الحرب، من فُقدت عائلته في البحر، من جاء مثله يطارد حلمًا فانتهى به الأمر مطاردًا كوابيسه.
وفي إحدى الأمسيات، بينما كان الجميع في قاعة الطعام، وقع أول خلاف حقيقي بينه وبين أحد النزلاء شاب يكبره بقليل، يحمل في عينيه ذكريات أشد قسوة من البحر نفسه. كان الخلاف تافهًا في بدايته: مكان الجلوس أو دور في الطابور… لكنه تحوّل في ثوانٍ إلى مواجهة مليئة بالتوتر.
رفع الشاب صوته في وجهه، وحدّق فيه بقسوة، بينما تجمّد إلياس في مكانه.
لم يكن الخوف من الشجار، بل الخوف من أن يرى نفسه في هذا الشاب… أن يدرك أن المستقبل الذي ينتظره قد يكون نسخة مشوهة مما أمامه الآن.
اقترب أحد المربّين وفصل بينهما، لكن الشرارة بقيت مشتعلة داخل إلياس.
في تلك الليلة لم يستطع النوم. ظل يتقلب فوق سريره وهو يسأل نفسه:
هل هذه هي الحرية التي بحثت عنها؟ هل كان البحر يستحق أن يخطف منه دفء البيت ليقدم له هذا البرد الداخلي؟ هل الطريق الذي سلكه سيقوده إلى حياة أفضل… أم إلى حياة لم يختَرها؟
كانت تلك الليلة بداية تحوّل آخر في حياة إلياس، بداية وعي جديد بأن ما ينتظره في أوروبا ليس حلماً… بل اختبار طويل يحتاج لقوة أكبر مما احتاجه لعبور البحر.
ما بين الهرب والهاوية
كان الشجار الأول بداية لانهيارات كثيرة داخل مركز القاصرين.
إذ لم يتوقف الأمر عند خلاف بسيط بينه وبين شاب آخر؛ فقد تدخل قاصرون آخرون، يدفعونه ويدفعون خصمه نحو العراك كأنهم يريدون اختبار قوته.
في نظرهم، البقاء للأقوى، ومن لا يثبت نفسه يصبح فريسة للآخرين.
وجد إلياس نفسه محاصرًا داخل دائرة صراعات لم يخترها.
شبان يلاحقونه بالنظرات، بالكلمات، بالاستفزازات…
حتى صار قلبه يرتجف قبل أن يغادر غرفته، وصار الليل بالنسبة له فخًا مظلمًا يبتلع أنفاسه.
بدأ يعاني من نوبات هلع متكررة.
لا ينام إلا بمهدّئات وصفها له الطبيب.
فقد شهيته، خسر الكثير من وزنه، وتداعت صحته النفسية يومًا بعد يوم.
كان يشعر وكأن جدران المركز تضيق عليه، وأنه محاصر داخل قفص لم يعرف كيف يهرب منه أو كيف يعيش فيه.
وفي لحظة يأس، قرر الهروب.
لم يكن يعرف إلى أين، ولا كيف، ولا ماذا سيجد في الخارج…
كان يريد فقط أن يهرب من الألم، من الخوف، من العيون التي تلاحقه.
وفي الصباح التالي، خرج من المركز دون أن ينتبه إليه أحد.
كانت الطرقات أمامه غريبة، الأسماء لا يفهمها، والناس يتحركون بسرعة لا تتيح له السؤال أو الاستفسار.
جال في شوارع المدينة طوال اليوم، جائعًا، مرهقًا، تائهًا…
وفي نهاية النهار، توقف في حديقة عمومية، يريد أن يستلقي على مقعد فارغ وينام قليلاً بعد يوم طويل من الضياع.
لكن المقعد كان يشغله رجل وامرأة مسنّان.
جلس بعيدًا ينتظر أن ينهضا…
وفجأة صرخ الرجل العجوز:
“¡Ladrón! السارق! الحقيبة!”
التفت إلياس فوجد شابين يركضون وقد خطفوا حقيبة المسنّة.
كان مذهولًا، متجمّدًا في مكانه.
والصاعقة الأكبر كانت حين سمعهم يتحدثون بالعربية.
اقترب منه أحدهم وهو يركض وقال له بسرعة:
“هرب! ما تبقاش هنا! العجوز هيتصلو بالشرطة!”
وفعلًا، بعد دقائق وصلت الشرطة.
وجد إلياس نفسه مطوقًا، محاصرًا، لا يعرف كيف يشرح ولا كيف يدافع عن نفسه.
وأمام صمت لغته وعجزه، اعتُقل ووُضع في زنزانة مظلمة.
كان يرتجف.
لم يعرف إن كان يعيش كابوسًا أو واقعًا قاسيًا يزداد قسوة.
دخل في نوبة هلع شديدة، اختلطت فيها الدموع بالارتجاف، حتى انتهى به الأمر في المستشفى.
وفي اليوم التالي أعادوه إلى المركز… منهكًا، مكسورًا، حائرًا.
وفي تلك الليلة، سمحوا له بمكالمة هاتفية مع عائلته.
كان صوته يرتعش وهو يقول:
“ألو… أبي؟”
سمع صوت أبيه مبحوحًا، مخنوقًا بشيء يشبه البكاء أو الألم.
لم يفهم إلياس شيئًا.
طلب منه أن يكلمه مع أمه، لكن الأب تلعثم وقال إنها في السوق تشتري أغراضًا.
كان يعلم أن ذلك عذر واهٍ.
المركز أخبر عائلته بما حدث…
أخبروهم أن إلياس هرب، وأنه اعتُقل بتهمة السرقة، وأنه سيعود إلى المركز ثم يتواصل معهم.
تخيّل أمه وقد أخبرها المركز، تخيّل دموعها وارتعاش صوتها وهي تحاول فهم ما يجري.
كان يريد بشدة أن يقول لهم:
“لم أسرق! والله لم أسرق… كنت ضحية، مظلومًا، كل ما حدث لي كان خطأً لم أقصده…”
كان يريد أن يسمع صوت أمه، أن يعانقها، أن يعود إلى حضنها الدافئ.
لكن الخوف من العتاب، ومن خيبة أمل والديه، جعله يصمت طويلاً منذ وصوله إلى أوروبا.
كان يخشى أن تخبره أمه: “لماذا فعلت هذا؟ لماذا سرقت مال أبيك؟ لماذا تركتنا؟”
ذلك المال…
المال الذي ادخره والده وهو يشتغل ليلًا ونهارًا كبائع متجول…
المال الذي كان سيشتري به دكانًا صغيرًا في سوق البلدة…
المال الذي اختفى حين سافر إلياس رغم أنه لم يسرقه، لكنه كان سبب اختفائه.
كان الصمت يحرق قلبه.
واليوم فقط، بعد كل ما مرّ به، شعر بحاجة ملحّة لأن يقول الحقيقة… أن يعتذر… أن يبكي بين يدي والديه.
لكن أمه… لم تتكلم.
لم تستطع.
وأبوه… كان صوته مكسورًا… متألمًا…
كأن تلك المكالمة كانت مزيجًا بين فرحة العثور عليه ووجع الحقيقة.
كانت تلك الليلة فاصلة في حياة إلياس…
لأنها جعلته يدرك أن الهروب لم يكن حلًا، وأن البحر الذي عبره أخذ منه أشياء كثيرة…
لكنه ترك له فرصة صغيرة، ربما تكون آخر فرصه، ليرمّم حياته من جديد.
حين يسقط آخر ضوء
كانت أخبار الأم كالسهم الذي اخترق قلب إلياس دون رحمة.
المعالجة النفسية وقفت أمامه بوجهٍ ممتلئ بالحزن، تحاول اختيار كلمات تخفف وقع الخبر، لكن لا كلمات في الدنيا كانت قادرة على ذلك.
أخبرته أن أمه في غيبوبة، وأن حالتها حرجة للغاية.
في تلك اللحظة…
لم يعد إلياس يرى الغرفة. لم يعد يسمع أي صوت.
كل شيء توقف.
كأن الزمن تجمد فجأة، ولم يبقَ سوى فكرة واحدة تدوي داخله:
“أمي تموت… بسببي.”
لم يعد يفكّر. لم يعد يحس.
تجمّدت حواسه كلها.
لو ضربه أحدٌ على وجهه لما شعر.
لو ناداه أحد باسمه لما انتبه.
كان يدرك أن أمه منذ اليوم الذي هرب فيه من المنزل، دخلت في انهيار نفسي، وأن حالتها تدهورت يومًا بعد يوم حتى انهارت تمامًا.
كان يعرف أن والده يحاول الاعتناء بإخوته والعمل في الوقت نفسه…
لكن كان ذلك يفوق طاقته. لقد تسبب لعائلته في عاصفة حقيقية.
مرّت الليلة كابوسًا طويلًا.
وفي الصباح، جاء المربي ليزيد الطين بلّة.
أخبره أن قضية السرقة التي وقعت في الحديقة ستُتابَع قانونيًا ضده، وأنه سيُحرَم لعدة أيام من الخروج والأنشطة.
كانت الأخبار تنهال عليه كالصواعق.
لا يستطيع فهم كيف يمكن للحياة أن تنقلب بهذا الشكل… بهذه السرعة… بهذه القسوة.
وفي اليوم التالي، لم يسلم من مضايقات الشباب الذين دخل معهم سابقًا في شجار.
بدأوا يستفزونه بكلمات تافهة، ثم بكلام نابٍ…
ثم تفوّه أحدهم بكلمة أسقطت آخر ما كان يملكه من صبر:
“أمّك…”
لم يسمع بعدها شيئًا.
لم يرَ شيئًا.
كان كمن انفجر دفعة واحدة.
انهال عليه ضربًا، ضربًا يشبه بكاء طفلٍ اختنق داخله ولم يجد سبيلًا للخروج.
تدخل موظفو المركز بصعوبة، فصلوهما، لكن داخله لم يهدأ.
تلك الليلة كانت الأشد ظلامًا.
لم يقدر على النوم إلا بالمهدئات، ثم بالمزيد، ثم بالمزيد…
حتى صار لا يقدر أن يمرّ يومًا بلا دواء.
مرّ شهران وهو يتدهور، معزول عن العالم، لا يتواصل مع أسرته، لا يفهم نظرات الشفقة التي تحيط به من كل الجهات.
لكن ذلك اليوم… كان مختلفًا.
كان يشعر بخوف داخلي، خوف لا يعرف سببه، كأن شيئًا يمزّق قلبه من الداخل.
وبالفعل…
كان ذلك اليوم هو يوم المحكمة.
كان يسير في الطريق إليها وصوت أمه يهمس في أذنيه…
لم يكن يعرف هل هو ذكرى؟ حلم؟ خيال؟
لكنه كان يسمع دعاءها وكأنه قادم من بعيد، من عالم آخر.
دخل المحكمة متهمًا بسرقة العجوزوتهمة الضرب والتسبب في جروح بليغة لصديقه في المركز
أكمل الإجراءات وهو شبيه بالشبح… روح بلا جسد.
وفي طريق العودة، أخبره المربي أن هناك اجتماعًا مهمًا فور وصولهم.
ظن إلياس أنه اجتماع تأديبي… أو قرار بنقله إلى مركز آخر…
لكن الحقيقة كانت أكبر وأثقل وأقسى مما يتخيله.
دخل القاعة الكبيرة.
كان الجميع موجودًا.
نظروا إليه بنفس النظرات… نظرات لم يكن يفهمها.
جلس… وبدأ الشخص الذي يتحدث العربية يخاطبه بلطف شديد.
كان يتكلم عن الحياة… عن الفقد… عن الصبر… عن الأشخاص الذين نحبهم…
لكن إلياس لم يكن يستوعب شيئًا.
كلماته كانت تتطاير في الهواء دون أن تصل.
كان يسمعها لكنها لا تدخل إلى عقله.
وفجأة…
قال الرجل الجملة التي مزقت آخر ما تبقى منه:
“أمّك توفيت… رحمها الله.”
أغمض إلياس عينيه.
ليس بكاءً…
ليس غضبًا…
ليس رفضًا…
بل غيابًا تامًا.
سقط في ظلام لا صورة فيه…
ظلام يشبه قبرًا، أو فراغًا، أو صدمة قتلت جزءًا منه إلى الابد.
يتبع……..
