بقلم: ذ كريمة لعزيز / بلجيكا

في عالم اليوم، حيث تتدفق المعلومات بحرية وتتعدد وجهات النظر، أصبحت الفرصة متاحة أمام الأفراد لتشكيل آرائهم بعيدًا عن التفسيرات الأحادية. ومع ذلك، لا تزال بعض المجتمعات تعتمد على تأويلات دينية تقليدية لتنظيم مختلف جوانب الحياة، مما قد يعيق التطور الفكري والاجتماعي، ويحدّ من قدرة المجتمع على مواكبة العصر.
إن النهضة الحقيقية لأي مجتمع لا تتحقق إلا من خلال الاستفادة من المعرفة الحديثة، ووضع قوانين قائمة على مبادئ العدل والعقل، بدلاً من استقاء التشريعات من تفسيرات دينية قد تكون محل خلاف. فالدين، في جوهره، تجربة روحية شخصية تعزز القيم الأخلاقية، بينما ينبغي أن تستند سياسات الدول إلى معايير موضوعية تضمن الحقوق لجميع المواطنين دون تمييز.
لطالما كان التفكير النقدي والبحث عن الحقيقة من أهم العوامل التي قادت البشرية نحو التقدم. فالمجتمعات التي شجّعت حرية الفكر والإبداع، وابتعدت عن فرض رؤى دينية واحدة على الجميع، استطاعت تحقيق مستويات عالية من الاستقرار والتطور. وعلى العكس، فإن الدول التي دمجت الدين بالسياسة عانت من الانقسامات والصراعات، حيث يؤدي فرض تفسير ديني معين إلى تهميش فئات من المجتمع، ويخلق بيئة غير متسامحة مع التنوع الفكري والثقافي.
التاريخ مليء بالأمثلة التي تثبت أن التطور العلمي والاجتماعي يتطلب بيئة حرة، حيث يكون العقل هو المرجعية الأولى في اتخاذ القرارات، وليس النصوص الدينية التي يمكن أن يختلف تفسيرها من عصر لآخر. ومن هنا، فإن بناء دولة حديثة يتطلب الاعتماد على المعرفة الإنسانية، لا على اجتهادات دينية نشأت في سياقات تاريخية مختلفة.
لكن تحقيق هذا التحول لا يمكن أن يتم دون ثورة في مجال التعليم. فبدلاً من تلقين الأجيال الجديدة أفكارًا جامدة، يجب أن يكون التعليم وسيلة لتعزيز التفكير النقدي، وتمكين الطلاب من تحليل القضايا بشكل مستقل، حتى يكونوا قادرين على المساهمة في بناء مجتمع أكثر انفتاحًا وتقدمًا.
إن الحديث عن فصل الدين عن السياسة لا يعني أبدًا إقصاء الدين من حياة الأفراد، بل وضعه في سياقه الصحيح: كمصدر للقيم الأخلاقية والإلهام الروحي، وليس كأداة للتحكم في شؤون الدولة. فالدولة العادلة هي التي تستمد قوانينها من احتياجات شعبها ومتطلبات عصرها، وليس من تفسيرات دينية قد لا تعكس التنوع الفكري والإنساني الموجود في المجتمع.
ويبقى السؤال الأهم: هل نحن مستعدون لتبني نهج أكثر عقلانية في إدارة شؤوننا؟ الإجابة على هذا السؤال قد تحدد مستقبلنا، وقدرتنا على بناء مجتمعات أكثر تسامحًا وازدهارًا.