
بقلم: الدكتور عادل بن حمزة

سأل أحد الجنود نابليون بونابرت قبيل اندلاع معركة “واترلو” هل الله معنا نحن الكاثوليك، أم مع الإنجليز البروتستانت؟! فأجابه: الله مع صاحب المدفع الأكبر!. هذه العبارة تختزل ببلاغة منطق الصراع السياسي والعسكري الذي يحكم منطقة الشرق الأوسط اليوم، خصوصًا في ظل الحرب الجارية بين إيران وإسرائيل، حيث يدعي كل طرف الطهرانية الدينية والإيديولوجية، وهي لحظة فارقة قد تُسقط أقنعة الشرعيات التي يستند عليها كل طرف، لكن إذا كان مصير إسرائيل الوجودي يرتبط بتحالفاتها مع الغرب، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بعمق هو: هل سردية الثورة الإيرانية، تقترب من نهايتها، بل من نهاية النظام الذي تولد عنها على مدى أكثر من أربعة عقود؟ ذلك أن أي نجاح لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في تفكيك البرنامج النووي الإسرائيلي وبرنامج الصواريخ الباليستية، سواء عبر الحرب أو الديبلوماسية، فإن ذلك ستكون له تبعات وجودية على النظام في إيران.
منذ إسقاط الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979، تبنت إيران خطابًا قائمًا على التخويف من استهداف الثورة، والدفع بوجود “مؤامرة” دائمة تستهدف الجمهورية الإسلامية. لذلك مزج النظام الوليد اللغة الثيوقراطية بالشعارات الثورية، واختزل السلطة السياسية في “ولاية الفقيه”، التي اختارت أن تصدر الثورة بدل أن تنشغل ببناء الدولة. راهنت طهران على الأقليات الشيعية في المنطقة، من اليمن إلى لبنان، ومن العراق إلى سوريا، ودخلت حربا طويلة مع العراق بدل استثمار عائدات النفط والغاز لتجاوز الأوضاع التي كانت سببا مباشرا في إندلاع الثورة ضد الشاه.
رغم كل ما يُقال عن صلابة النظام الإيراني وقدرته على امتصاص الضغوط الداخلية والخارجية، فإنّ الحرب المباشرة ضد إسرائيل قد تمثّل اللحظة الحاسمة التي تكشف هشاشة كيان ثيوقراطي بُني على توازنات معقدة يمكن أن تتعرض لإنهيار سريع كما حدث في كثير من الأنظمة الشمولية التي كانت تعيش على الشعارات. فمنذ الثورة الإسلامية عام 1979، سعى النظام إلى بناء مشروعية أيديولوجية ودينية واجتماعية، وقد نجح إلى حد كبير في تغيير وجه إيران من النقيض إلى النقيض في حالة نادرة قد لا تقاس سوى بالثورتين الفرنسية والروسية، إلا أن النظام اليوم يواجه مخاطر الانهيار في الأسس التي قام عليها أيديولوجيًا، ووظيفيًا، ومجتمعيًا. بذلك قد تكون الحرب الجارية حاليا القشة التي تقصم ظهر النظام.
الحرب مع إسرائيل بالنسبة لإيران، ليست معركة حدودية أو مجرد صراع نفوذ في الإقليم، بل هي اختبار شامل لقدرة النظام على التماسك في لحظة شديدة التعقيد. فقد فيها النظام حلفائه في المنطقة بينما الداخل الإيراني لم يعد كما كان، فجدار الخوف يتآكل، والحاضنة الشعبية للنظام وفي صلبه الحرس الثوري تتآكل، والهوية الثورية التي طالما استخدمها النظام كوسيلة للتعبئة والدفاع، باتت بلامعنى وغير قادرة على تبرير الفقر والبطالة وسوء الخدمات خاصة بالنسبة للشباب. الجيل الذي خرج في احتجاجات 2017 وما تلاها، ليس من أبناء الثورة، بل هو جيل ساخط لا يُبدي أي ولاء للرموز الدينية التي يحكم من خلالها النظام، ولا يعقد أي مقارنة تفاضلية بينه وبين نظام الشاه رضى بهلوي. قد تكون الوطنية الإيرانية عامل وحدة في ظل المواجهة الحالية مع إسرائيل، لكن مفعولها في حالة الهزيمة قد يكون عكسيا، ذلك أن التعبئة الوطنية ستكون في مواجهة النظام ورموزه، نستحضر هنا ما حدث بعد سقوط نظام موسوليني في إيطاليا، وصدام حسين في العراق، ونظام الحزب الشيوعي السوفياتي، ونظام تشاوسيسكو في رومانيا، و القذافي في ليبيا وليس آخرا نظام الأسد في سوريا، وفي كل هذه النماذج كان العامل الخارجي حاسما، بعد عجز الديناميات السياسية والاجتماعية في الداخل على إلحاق الهزيمة بأجهزة النظام الأمنية والأيديولوجية.
السيناريوهات التي تنتظر إيران حال رحيل خامنئي وبغض النظر عن مآلات المواجهة مع إسرائيل، لا توحي باستقرار طويل الأمد. فصراعات الحرس الثوري مع المؤسسات التقليدية، وتعدد مراكز القوى داخل النظام، وتضارب الولاءات داخل النخبة، والغضب الشعبي، تُنذر جميعها بفترة اضطراب سياسي قد تكون البوابة لتفكك النظام أو إحداث تحول من داخله. الحرب مع إسرائيل قد تسرّع هذه اللحظة الانتقالية، لأنها تستنزف ما تبقى من تماسك سياسي واقتصادي واجتماعي في بلد يعيش على شفير الانفجار.
في النهاية، قد لا تؤدي الحرب وحدها إلى انهيار النظام الثيوقراطي في طهران، لكنها حتمًا تسرّع تآكل مبررات بقائه، وتُبرز بجلاء حجم الشرخ بين الدولة والمجتمع. والسؤال لم يعد إن كان النظام سيسقط، بل متى وكيف. والأعقد من ذلك هو طبيعة البديل وحجم الفراغ الذي سيتركه سقوط النظام ومخاطره على المنطقة ككل.