
بقلم: الصحافي أمين بوشعيب/ إيطاليا

في زمن التيه العربي وابتلاع الكبرياء على موائد الأمريكان، أتذكر رجلاً فارسيًا جاء يبحث عن الحق، فوجد مجده بين يدي نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم، ليصبح كما قال عليه الصلاة والسلام: “سلمان منا أهل البيت” رغم أنف كل متعصّب للعرق والأصل واللغة.
سلمان الفارسي، الباحث عن الحقيقة، قطع آلاف الأميال، وواجه الجوع والأسر والرقّ، فلم تثنه السلاسل عن مطاردة النور حتى انحنى يقبّل خاتم النبوة على ظهر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والدموع تغسل خديه. سلمان هذا، الذي فوتته بدر وأحد، لكنه عوّض كل ذلك في يوم الخندق، حين خرج بفكرة لم تعرفها العرب، ليقول للنبي: «يا رسول الله، كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا»، فجاء الخندق ليكسر شوكة قريش وحلفائها، ويجعل الله بأسهم بينهم، ويرد كيدهم في نحورهم.
اليوم، أعود إلى هذا المشهد وأنا أرى حكام العرب يتحزّبون ضد إيران، كما تحزّبت قريش ضد المدينة، ولكن بدل أن يواجهوا أعداء الأمة، اصطفّوا معهم، وفتحوا لهم الأرض والسماء، ليضربوا إيران، الدولة الجارة التي يجمعها بهم الدين والتاريخ والجغرافيا.
يا حكام العرب، ألم يحن الوقت لتفهموا أن أمريكا لن تحارب إيران من أجلكم؟ ألم تروها تبيعكم السلاح بمليارات الدولارات، ثم تترككم وحدكم، بينما هي تحلب أموالكم ولا تحرك ساكنا؟ أما إيران، فإنها تعرف الحروب، وتعرف كيف تحفر خندق سلمان حولها، وقد تكسر أنف الأمريكيين، لذلك لن تقدروا عليها ببيانات إنشائية، ولا بقمة خليجية أو عربية أو إسلامية مفرغة من المضمون.
تدّعون العداء لإيران لأنها فارسية، لكن نبيكم الذي تقولون أنكم تحبونه، احتضن سلمان الفارسي، وقال فيه: «سلمان منا أهل البيت»، وأكرمه يوم الخندق لأنه قدّم فكرة أنقذت الإسلام والأمة الفتية أنذاك، بينما أنتم تقفون الآن على أبواب ترامب ونتنياهو تستجدون الحماية، وتفتحون أبواب أحضانكم لمن يسرق ثرواتكم ويستهزئ بكرامتكم.
أما كان الأجدر أن تبنوا جسور الحوار مع إيران بدل طبول الحرب؟ أما كان أولى أن تبحثوا عن خندق يحمي الأمة من الصهاينة والأمريكان، بدل أن تكونوا خندقًا لهم ضد جيرانكم؟ أما آن لكم أن تضعوا يدكم في يد كل من يعادي إسرائيل، بدل أن تفرحوا بالتطبيع وتستقبلوا الصهاينة في ديار الإسلام؟
الحوار ليس ضعفًا، بل قوة، وهو السلاح الذي ينزع فتيل النار، ويمنع العواصف أن تحرق الخليج والعرب والمسلمين جميعًا. جربوا وصفة سلمان: فكرة ذكية في اللحظة الحرجة، مبادرة ترد الأعداء على أعقابهم، وتوحد الصف بدل أن تفرقه.
يا من تتبجحون بعداوتكم لإيران، إن أعداء الأمة لا يريدون لكم النصر، بل يريدونكم وقودًا لحروب لا تنتهي، لتبقى خزائنهم ممتلئة وجيوبكم فارغة، وأوطانكم خاوية، وكرامتكم تحت الأقدام.
إن المستفيد الأكبر من تمزيق الأمة وإشعال الفتن بين السنة والشيعة، هم أعداء الأمة الذين يجدون في هذه الانقسامات فرصة لضرب استقرارها وسرقة مواردها، بينما تنشغل الشعوب بمواجهات داخلية لا تخدم إلا مشاريع الهيمنة الأجنبية. ولعل الأحداث التي تعيشها الأمة اليوم، من فلسطين إلى العراق إلى اليمن وسوريا وغيرها، أكبر شاهد على خطورة هذه الانقسامات، وأهمية تجاوزها بروح المسؤولية والوعي والإيمان بأن هذه الأمة أمة واحدة، مهما تعددت مدارسها واجتهاداتها.
لذلك ليس من المبالغة في شيء أن نقول إنّ الأمة الإسلامية تمرّ بمرحلة حرجة من تاريخها، حيث تتكالب عليها الأعداء من الخارج، بينما تنهشها الخلافات من الداخل، وتزداد الفجوة بين مكوناتها من سنة وشيعة، حتى أصبح الدم المسلم أرخص من الماء في كثير من البلاد الإسلامية المنكوبة. وفي خضم هذه الأوضاع المأساوية، لم يعد الحديث عن الوحدة الإسلامية مجرد ترف فكري، بل ضرورة وجودية يفرضها الواقع، إن أرادت هذه الأمة أن تحافظ على مكانتها ووجودها وكرامتها.
فلاش: لقد ظلت الأمة الإسلامية قرونًا طويلة متماسكة رغم اختلاف المذاهب والمدارس الفكرية، إذ كان الخلاف محصورًا في الدوائر العلمية والاجتهادية، لا يتحول إلى صراع دموي يُستغل من أعداء الأمة لتفكيكها ونهب مقدراتها. اليوم، ومع تكاثر الأزمات والحروب والصراعات الطائفية، أصبح واجبًا على العلماء والمفكرين والحكام والنخب أن يعملوا على رأب الصدع، وإحياء ثقافة الاحترام المتبادل، والتركيز على المشترك الذي يجمع المسلمين في العقيدة والقبلة والقرآن، وتوحيد الصف في مواجهة الاحتلال والعدوان والهيمنة الأجنبية. فلماذا لا تجربون خندق سلمان مع إيران، بدل خنادق الذل عند أعداء الأمة؟ ولماذا لا تحفرونه مع إيران بدل الرقص في أحضان الصهاينة؟