الدكتور عادل بن حمزة
كانت سوريا في آذار (مارس) 1949 على موعد مع أول انقلاب عسكري في المنطقة العربية، قاده حسني الزعيم ضد الرئيس شكري القوتلي، وقد تلته ثماني انقلابات آخرها ذلك الذي قاده وزير الدفاع حافظ الأسد ضد الرئيس صلاح جديد. وكان قدر سوريا أيضا أن تشهد أول عملية توريث للحكم في نظام جمهوري وهو ما دشن لتجربة الجمهوريات الوراثية التي لم تنجح مخاضاتها الأخرى في كل من مصر مع جمال مبارك ولا في ليبيا مع سيف الإسلام القذافي، لكن مصير تلك التجارب كان متفاوتا، فمصر نجحت بفضل تقاليد الدولة ورسوخ المؤسسة العسكرية في تجنب حالة الفراغ واللادولة، بينما لم يسعف إرث العقيد القذافي (اللا دولة) في العبور بليبيا إلى بر الأمان بعد 14 عاما من رحيله المأساوي.
عندما استلم البعث السلطة في سوريا مثلت إسرائيل بالنسبة له هبة سماوية، فإرتفعت أصوات التخوين ضد كل صوت يطالب بالتغيير، وإرتفع الشعار الكاذب، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، فلم يشهد السوريون والعالم أثرا لمعركة، بل شاهدوا فقط منصات للخطابة والشعارات والمزايدات الكلامية على أنظمة عربية أخرى في الجوار وفي غيره، وتأييدا لتمزيق الشعوب والاستثمار في المشاريع الإنقلابية والثورية والإنفصالية.
الوضع اليوم في سوريا أكثر تعقيدا مما يسعى أحمد الشرع زعيم هيئة تحرير الشام أن يقنع به السوريين والمجتمع الدولي عبر وسائل الإعلام، ذلك أن واقع الانقسام/التقسيم الذي تكرس بفضل رفض نظام الأسد فتح مسارات سلمية توافقية لإحداث تغيير في البلاد خاصة بعد فشل مسارات جنيف التي انعقدت بين 2012 و2017 إضافة إلى محطة فيينا 2018، يعتبر ذلك عطبا بنيويا تكرس على امتداد 14 عاما، الانقسام الذي تعرفه سوريا لم يكن فقط بفضل تعقيدات الوضع الداخلي السوري، بل أيضا وبصفة رئيسية، كان بفعل فاعلين خارجيين لا يمكن إسقاطهم من المعادلة وإن بشكل متفاوت، ومنها على الخصوص تركيا والولايات المتحدة الأمريكية وإيران (عبر “حزب الله” ) وروسيا، لذلك يصبح الحديث عن عملية تحول سياسي سلمي متوافق عليه وتشارك فيه جميع الأطراف، مسألة شديدة التعقيد في ظل بنية طائفية كرسها النظام البائد، وأساسا بحكم واقع تعدد القوى المسلحة بولاءات وأجندات مختلفة، وهو ما ينطبق أيضا على القوى السياسية سواء تلك التي تنضوي تحت لواء الائتلاف السوري المعارض أو القوى الكردية، كل هذا المزيج غير المتجانس وغير المستقل، يجعل الأسس التي يمكن أن تقوم عليها عملية الانتقال الديمقراطي هشة للغاية، بما ينذر بسنوات من عدم الاستقرار الذي قد يفضي إلى تمزق سوريا والمس بوحدتها الترابية، وهو وضع لا يرتبط بسقوط النظام في دمشق، بل هو نتيجة لانسداد مسار الحل السياسي منذ بداية الأحداث سنة 2011، ذلك أن النظام ومنذ اتفاقات الهدنة التي تمت سواء بوساطة روسية أو بحكم الأمر الواقع، قبل واقع التقسيم والتجزئة حتى وإن لم يتعدى نفوذه دمشق وريفها، كان المهم هو أن يبقى بشار الأسد على رأس الدولة بغض النظر عن واقع نفوذه وسيطرته الفعلية، اختبار ذلك كان عندما رفع عنه الغطاء الإيراني الروسي فانفرط النظام كحبات السبحة…
العنوان العريض اليوم في التعليق على ما يجري في سوريا، هو كم ستستمر المرحلة الانتقالية والتي هي وليدة الأمر الواقع الذي تفرصه جبهة تحرير الشام من خلال غرفة العمليات العسكرية التي تضم مجموعة من الفصائل المسلحة؟ وكيف يمكن التأسيس لحوار وطني يضم السياسيين والمسلحين دون أن يكون السلاح ميزة تفرض شروطا على باقي الفرقاء في الوطن، ودون إهمال اختبار النوايا والخطابات بالممارسة الفعلية على الأرض، فتحقيق الديمقراطية المنشودة في سوريا الجديدة لا يعتمد فقط على إبداء الرغبة أو الإرادة من هذا الطرف أو ذاك، بل يعتمد على التصريف العملي المادي لهذه الرغبة أو الإرادة، فتأمل بسيط في مختلف تجارب الانتقال الديمقراطي التي شهدها العالم، يدفعنا إلى خلاصة جوهرية مفادها أننا أمام ظاهرة يصعب تنميطها أو رسم آليات وقواعد عامة لها، فمن حيث المدة المفترضة التي يجب أن تستغرقها عملية الانتقال، لا نجد مدة زمنية ثابتة ففي فرنسا مثلا تطلبت عملية الانتقال أكثر من قرنين، أي منذ الثورة الفرنسية إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث تمكنت النساء من حق التصويت لأول مرة شأنها في ذلك شأن بلجيكا، بينما نجد التجربة الاسبانية والتي بدأت سنة 1975 كانت أسرع.
إن تحقيق الديمقراطية ليست مسألة نهائية، بل هي مهددة في كل لحظة بالنكوص والتراجع، فالديمقراطية تستمر بمؤيديها وخصومها على حد سواء، ذلك أن مراحل التحول إلى الديمقراطية تظهر كأوضاع تاريخية يتنافس فيها مختلف الفاعلين حول طبيعة القواعد السياسية مما يجعل منها مسلسلات مفتوحة على احتمالات ثلاث: إما الانتكاسة والرجوع إلى الحالة التسلطية ونكون بالتالي أمام تحول مجهض أو الاستمرار في الابقاء الصوري والهش على المؤسسات الديمقراطية أو أخيرا فرض ترسيخ الديمقراطية التي تؤشر على الانتقال المنجز، فالديمقراطية تتحول من خلال عدم يقينية الانتقال، إلى مسلسل لمأسسة عدم اليقينية حسب الباحث المغربي محمد أتركين.
عدم اليقينية يتجاوز الوضع المرتبط بالتباس المراحل الانتقالية، بل يتجاوزه إلى أبعد من ذلك، إلى ما يمكن أن تعرفه التجارب الديمقراطية شبه الكاملة من انحسار، نتيجة لمسار طويل من التراجعات التي كانت موضوع كتابات وازنة منها كتاب “ستيفن ليفيتسكي” و”دانييل زيبالت” “كيف تموت الديمقراطيات” الذي أكدا فيه أن التاريخ أثبت في معظم الحالات “أن الديمقراطيات تموت ببطء لا يكاد يلاحظه أحد” إذ إنها” تفسد بسبب القادة الذين يسيئون استغلالها”، وأن أرض الديمقراطية الخصبة تخضع للتجريف لمدة طويلة.. فهل تحقق سوريا ديمقراطية مقاومة للتجريف؟ هذا ما نأمله…