الدكتور عادل بن حمزة
تنعقد بمدينة بوزنيقة المغربية، جولة جديدة، من المشاورات بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة الليبيين، وذلك في سياق الجهود المبدولة لإعادة الاستقرار إلى ليبيا وتحقيق توافق وطني ينهي وضع الإنقسام الذي نتج عنه واقع أمني وسياسي صعب منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي. الفرقاء الليبيون يسعون مرة أخرى بجهد جماعي، إلى صياغة اتفاق يمهد لمرحلة جديدة تخرج البلاد من النفق، قائمة على بناء المؤسسات عبر تنفيذ المادة الرابعة من الاتفاق السياسي الليبي المعتمد بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2050 لسنة 2015، والقاضي بإعادة تشكيل السلطة التنفيذية، تبعا لصلاحيات كل من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، بما يحقق التوازن بين الطرفين في اتخاذ القرارات المصرية للدولة.وتتناول المناقشات الحالية بين الأطراف الليبية، إنشاء لجنة عمل مشتركة تُكلّف بإعادة تكليف سلطة تنفيذية جديدة، تتولى تقديم مقترحات تضمن عمل الحكومة وفق معايير تدعم الشفافية وتعزز مسار اللامركزية، مع توفير شروط تمكن من التقدم نحو إجراء الانتخابات. وفي إطار تعزيز اللامركزية يسعى لقاء بوزنيقة الجديد إلى إنشاء لجنة معنية بالحكم المحلي، بهدف تحقيق التوازن بين المشاريع المركزية الكبرى والمشاريع المحلية الصغيرة في إطار من الشفافية والنزاهة والعدالة الترابية. إضافة إلى ذلك توجد على طاولة المفاوضات قضايا أخرى ذات أهمية خاصة تتعلق بالجوانب الأمنية خاصة مراقبة الحدود والمعابر في ظل عدم الإستقرار الذي تعرفه خاصة الحدود الجنوبية وكذلك القضايا المتعلقة بالمناصب السيادية وقضايا تهريب وغسيل الأموال، على أن تنهي هذه اللجان أشغالها وإعداد مقترحاتها في أجل أقصاه 19 كانون الثاني (يناير) 2025.
لقاء بوزنيقة الجديد، يدخل ضمن سلسلة لقاءات ليبية ليبية احتضنها المغرب منذ 2015، حيث اعتبرت الرباط دائما أن الحل يجب أن يكون ليبيا ليبيا، بعيدا عن التأثيرات الخارجية وهو ما أكد عليه وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة أكثر من مرة كان آخرها أول أمس. نستحضر هنا أن الاتفاق السياسي الليبي الذي وُقّع في الصخيرات في المغرب في كانون الأول (ديسمبر) 2015، اعتبر في حينه اختراقا مهما للوضعية العصبة التي كانت تمر بها ليبيا وهي تغرق في أتون أهلية تؤججها أطراف داخلية وخارجية، وكان لإرث التفكك البنيوي للمؤسسات وضعف تقاليد الدولة في عهد العقيد القذافي، دور سلبي ساهم في تعميق الخلافات بين الأطراف الليبية التي تحصنت بهويات قبلية ومناطقية وإيديولوجية مختلفة في استعادة للتقسيم التاريخي منذ دستور 1951، لذلك مثل اتفاق الصخيرات، رغم كل الملاحظات التي تعرض لها، أول اختراق لمعالجة شرعية المؤسسات القائمة في شرق وغرب ليبيا، إذ نص الاتفاق آنذاك على قيام حكومة وحدة وطنية توافقية تتشكل على أساس الكفاءة وتكافؤ الفرص،
وتتحمل مسؤولية السلطة التنفيذية التي تتكون من مجلس للوزراء يترأسه رئيس مجلس الوزراء، وعضوين نائبين، وعدد من الوزراء، ويكون مقرها بالعاصمة طرابلس، ومدة ولايتها عام واحد، ثم اعتماد
البرلمان المنعقد بطبرق والمنتخب في يونيو (حزيران) 2014 كهيئة تتولى السلطة التشريعية في ليبيا خلال المرحلة الانتقالية التي لم تحدد مدتها، زيادة على حكومة توافقية واعتماد سلطة تشريعية موحدة، وقد تضمن ذات الاتفاق تأسيس مجلس أعلى للدولة ومجلس أعلى للإدارة المحلية وهيئة لإعادة الإعمار وأخرى لصياغة الدستور ومجلس الدفاع والأمن، على أن يتولى المجلس الأعلى للدولة بصفته أعلى جهاز استشاري، إبداء الرأي الملزم بالأغلبية في مشروعات القوانين والقرارات ذات الصفة التشريعية التي تعتزم الحكومة إحالتها إلى مجلس النواب، وهو ما يمثل جسرا بين حكومة الوفاق وبرلمان طبرق.
بغض النظر عن مستويات تقيد مختلف الأطراف بتنفيذ اتفاق الصخيرات، فقد شكل مرجعا أساسيا في كل الجهود التي كانت تبذل لحلحلة الأزمة الليبية، غير أن بعض الأطراف الداخلية والخارجية، حملت رؤية مختلفة على طرفي النقيض مع أطراف الصخيرات، فإذا كانت مرجعية هذا الاتفاق هو بناء وتوحيد المؤسسات السيادية والقبول بواقع التعدد والاختلاف سواء في الشرق أو الغرب الليبيين، فإن أطراف أخرى داخلية وخارجية كانت تعتبر أن الأولوية هي الإلتفاف على جيش ليبي موحد وحل المليشيات والحسم مع الجماعات المسلحة التي تمثل امتدادا لداعش والقاعدة، وقد مثل خليفة حفتر هذا الرأي بقوة، قبل التدخل العسكري التركي المباشر، الذي نجح في قلب المعادلة لصالح حكومة الوفاق، تغير المعطيات العسكرية على الأرض ساهم أيضا في استعادة عقيلة صالح رئيس البرلمان المنعقد في طبرق للمبادرة، كما استعاد البرلمان دوره ومكانته التي تعد واحدة من مخرجات اتفاق الصخيرات.
بالتأكيد لم يكن اتفاق الصخيرات مثاليا، لكنه شكل مقدمة لفض النزاع في ليبيا، وبدل دعم الاتفاق والسعي إلى تعديله بما يخدم مصالح الأطراف المختلفة وإعادة الاعتبار للحل السياسي، سعت عدد من القوى الكبرى إلى فتح مسار جديد ومنه المبادرة الألمانية، حيث شكل مؤتمر برلين في الواقع مجرد لقاء لتنظيم التنافس ووضع قواعد للحد من الاشتباك بين مختلف القوى الدولية والإقليمية حول خيرات الشعب الليبي، ويبدو ذلك واضحا بالعودة إلى البيان الختامي للقاء برلين الذي أفرد مكانا مهما للنفط ومؤسسات النفط وكل ما يتصل به بما يفوق الاهتمام بالسلام في ليبيا وبأمان الشعب الليبي.
هل نجح اتفاق الصخيرات في وقف الحرب والمواجهات العسكرية والتدخل الخارجي؟ الجواب لا بطبيعة الحال، لكن قيمة اتفاق الصخيرات كانت في كونه يمثل مرجعية، يمكن الاختلاف بشأنها لكن أهم الأطراف في النزاع تعتبرها أرضية يمكن البناء عليه ولا حرج من تعديلها، في هذا الإطار يأتي مسار بوزنيقة الجديد والذي يمثل امتدادا للرؤية المغربية للأزمة الليبية، منذ أعمال الدورة 154 لمجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، حيث فقد أكد وزير الشؤون الخارجية المغربي ناصر بوريطة، على :” ضرورة العمل على تحقيق الحل لهذه الأزمة بمساهمة ليبية محضة، والمساهمة في توفير إطار محايد لحوار ليبي- ليبي، يضمن تماسك اللحمة الوطنية والوحدة الترابية والسيادة الوطنية لليبيا على جميع أراضيها بعيدا عن التدخلات الأجنبية.”.
مسار بوزنيقة الجديد يؤكد ثبات الاتفاق السياسي للصخيرات كمرجعية للحل السلمي في ليبيا، فالأطراف المجتمعة في بوزنيقة هي المؤسسات التي أفرزها اتفاق الصخيرات، وعودة الفرقاء إلى طاولة الحوار الليبي الليبي، يعد اعترافا جديدا بأنه ليس هناك حل لما يجري في ليبيا غير الحل السياسي الذي يجب أن يمر عبر طاولة المفاوضات.