
بقلم: ذ. كريمة العزيز

هل نحن فعلاً داخل هذا الزمن أم أننا نعيش على هامشه، نستهلك حركته ولا نشارك في صناعته؟ العالم يعيد تشكيل مفاهيمه، يُراجع معتقداته، يهدم ما تقادم من أفكاره، ويستبدل أدواته القديمة بأخرى أكثر فاعلية وانفتاحًا، بينما نحن ما زلنا نراوح في مكاننا، ننتظر من يجيز أو يمنع، من يحدد لنا ما نفكر فيه، كيف نؤمن، ومتى نتساءل. في عالم مشبع بكل شيء، في زمن أصبحت فيه المعلومة متاحة في كل مكان وزمان، لم يعد الإنسان بحاجة إلى أن “يتعلّم” بالطريقة التقليدية، لم يعد ينتظر من يُلقّنه أو من يُملي عليه ما يظنه حقًا. لقد دخلنا عصرًا جديدًا، عصرًا لم تعد فيه السلطة في يد من يتحدث كثيرًا، بل في يد من يُفكّر بعمق. الإنسان اليوم لا يصغي فقط، بل يختار، يبحث، يقارن، ويستنتج. لم تعد المعرفة حكرًا على شيخ أو واعظ أو كتاب أصفر، بل أصبحت فعلًا حيًا يمارسه الإنسان بنفسه، وكل محاولة لتقييد هذا الفعل هي عبث ومقاومة يائسة لزمن لا يمكن إيقافه. وفي مقابل هذا التحول الهائل، ما زلنا نُحكَم بعقليات عفا عليها الزمن، نخاف من طرح الأسئلة، نُحرّج من مراجعة أفكارنا، ونُقدّس رموزًا لم تُختبر يومًا في سياقنا المعاصر. هذا ليس مجرد تأخر، بل انسحاب طوعي من معركة الوعي. ووسط هذا الضياع، تغيب النخبة التي نحتاجها بشدة، نخبة من المفكرين والموجهين الروحيين الذين يدركون أن الدين ليس أداة سلطة بل طاقة لتحرير الإنسان، وأن وظيفة الشيخ لم تعد أن يفتي ويأمر، بل أن يرشد ويتفاعل ويحتضن الإنسان في هشاشته، في قلقه، في تساؤلاته. لقد آن أوان إعادة رسم دور الفقيه والمسجد والمؤسسة الدينية، وفق رؤية إنسانية عقلانية، تضع القيم في قلب الفعل، لا على هامش الخطاب. محمد شحرور، رحمه الله، كان من أوائل من فهموا هذه الحاجة، وكتب بتجرد وشجاعة، وضع الأسس وفتح الأبواب، لكنه لم يكن النهاية، بل البداية فقط. نحن لا نحتاج إلى إعادة تدوير الخطاب القديم، بل إلى ثورة معرفية هادئة، عميقة، تزرع في الأجيال القادمة الجرأة على التفكر، والشجاعة على الاختيار، والقدرة على الربط بين الإيمان والواقع. فكل تأخر هو خيار، وكل صمت هو تسليم، وكل انتظار لفتوى هو استقالة من حقنا في الفهم والتطور. العالم يتحرك، والقطار لا ينتظر أحدًا. فإما أن ننهض بعقل مفتوح وضمير يقظ، أو نظل نعيش على فتات الماضي، ننتظر من يجيز لنا حتى أن نكون أحياء.