بقلم : د. عادل بنحمزة
“في كانون الثاني (يناير) من هذه السنة كتبت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، أن أهم انتخابات سيعرفها العالم سنة 2023 هي الانتخابات التركية، التي تُجرى بعد غد الأحد، إذ تعيش تركيا منذ أشهر على وقع واحدة من أشرس الحملات الانتخابية، وهي في حالة من عدم اليقين بخصوص النتائج التي يمكن أن تسفر عنها المنافسة بين التحالف الملتف حول حزب العدالة والتنمية وزعيمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتحالف الذي يدعم حزب الشعب ومرشحه للرئاسة كليتشدار أوغلو.
تُعتبر الانتخابات التركية أكبر حدث سياسي تعرفه البلاد منذ عملية التحول العميقة التي هدمت النظام السياسي سنة 2018 عبر التعديلات الدستورية التي نقلت تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، وهو تحوّل لا يجد مساندة من كل التيارات السياسية داخل البلاد إلى اليوم، بل إن أحد وعود المعارضة التركية في الانتخابات الحالية هو العودة إلى النظام البرلماني، لكنه أمر يبدو بعيد المنال، ذلك أن استطلاعات الرأي تعطي لحزب العدالة والتنمية وحلفائه حظوظاً واسعة لاستمرار الهيمنة على البرلمان.
الانتخابات التركية أيضاً تعتبر حاسمة ومهمة للغاية في سياق التحولات التي يشهدها العالم والمنطقة، لا سيما تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، وعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية في سياق التقارب السعودي – الإيراني ومدى انعكاسات ذلك على وضعية اللاجئين السوريين خصوصاً في ظل تداعيات الزلزل المدمر الذي ضرب تركيا وشرد حوالى 12.5 مليون شخص، ويضاف إلى ذلك موضوع توسيع حلف الناتو والاعتراض التركي على عضوية السويد. كل هذه القضايا من شأنها أن تتأثر بشكل كبير بنتائج انتخابات الأحد وقد تؤثر بشكل كبير على تركيا وعلى المنطقة بأسرها، بخاصة إذا ما تمكن حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان من الفوز فيها، ففي هذه الحالة سيواصل الرئيس التركي تعزيز سلطته وتعزيز النظام الرئاسي الذي دخل حيز التنفيذ في عام 2018، كما أنه سيعزز الموقع السياسي لأردوغان في الوضع الدولي الحالي. كما أن الأمر قد يؤدي إلى تنامي الانقسامات السياسية والاجتماعية في تركيا، وزيادة التوترات مع بعض الدول، خصوصاً في ما يتعلق بالقضايا الإقليمية مثل سوريا وليبيا وقبرص..”
من ناحية أخرى، إذا فشل حزب العدالة والتنمية بالفوز في الانتخابات، فقد يؤدي ذلك إلى تغييرات كبيرة في السياسة التركية، وربما التحول نحو نمط جديد من الحكم في البلاد. وقد يؤدي هذا إلى تحسن العلاقات مع الدول الأخرى، وتقليل التوترات الإقليمية، وهذا الأمر يعبر عن رغبة غربية واضحة، فالغرب يريد أن يتخلص من أردوغان في أقرب وقت.
شكل أردوغان منذ وصوله إلى السلطة ظاهرة خاصة في تاريخ تركيا الحديثة، ونموذجاً للتيار السياسي الاسلامي الذي نجح في عبور حقول ألغام كثيرة في بنية النظام السياسي بثقله الأتاتوركي العلماني الصارم، حيث استطاع أن يتجنب المواجهات القاتلة التي أوقفت زحف الاسلاميين منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي، وقد حقق ذلك عندما وضع الإيديولوجيا في الخلف وقدم حزبه على أنه علماني، وصار يصنع معجزة اقتصادية لا يمكن إنكارها حارماً بذلك الجيش من أي مبرر للانقلاب عليه، وحتى عندما حاول جزء منه القيام بذلك، كان الوقت قد فات، و كان أردوغان بسط سلطته الفعلية والأخلاقية على الجميع.
هذا ليس سوى جانب من الصورة في تركيا، فالبلاد وفق عدد كبير من المراقبين، سارت بخطى ثابتة نحو نظام سلطوي مغلق، والتعديلات الدستورية التي فرضها أردوغان اعتماداً على أغلبيته البرلمانية، لا تقدم أي مبرر جدي ومنطقي لتحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، غير تمكين أردوغان من السلطة الفعلية، ما دام وضعه السابق لم يسمح له كرئيس سوى بأدوار رمزية وأخرى بروتوكولية، وهو ما يعني أن دولة بحجم تركيا حولت نظامها السياسي بالكامل، إرضاءً فقط لزعيمها الوحيد والأوحد سلطان الزمان السيد أردوغان، وذلك بما يمكنه من الاستمرار في السلطة إلى حدود عام 2029، ولا أحد يضمن ما يمكن أن يكون عليه الأمر بعد ذلك، بخاصة أمام إغراء الظاهرة البوتينية (نسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين)، وما قام به الرئيس الروسي من تناوب مثير على منصب الرئاسة مع رفيقه ميدفيديف.
أردوغان حقق بكل تأكيد نهضة قوية لتركيا، واستطاع أن يحقق استقراراً مثالياً لسنوات طويلة، لكن أردوغان في النهاية يبقى بشراً قد يصيب وقد يخطئ، وخطأه الأكبر أنه لا يقبل سماع الرأي المخالف، وعندما تكون هذه الصفة في مسؤول من حجمه، لا يتورع عن تغيير نظام الحكم لصالحه حتى لا يبقى في الهامش أو يعود إلى بيته، فإن ذلك يكشف عن تعطش كبير للسلطة، بالتأكيد أنها قابلة للانحراف عندما لا تجد من يقول في وجهها كلمة “لا”.
التجربة الفرنسية مع ديغول
شارل ديغول كان رجلاً عظيماً في تاريخ فرنسا، حيث لا يمكن أن تذكر فرنسا، من دون الحديث عنه، لقد استطاع أن يتجاوز ربيع باريس سنة 1968 بخبرته وتجربته الكبيرتين، وفاز بالانتخابات النيابية التي أعقبت ذلك الربيع، في وقت كان الجميع يعتقد أن الحزب الشيوعي الفرنسي سيستثمر تلك الأحداث لفائدته.
في سنة 1969 دعا ديغول الشعب الفرنسي لاستفتاء سعى من ورائه إلى إدخال تعديلات تهم مجالات حيوية عدة، بل ربط استمراره في رئاسة الجمهورية بنتيجة التصويت. الفرنسيون كانوا يقدرون ديغول بلا شك، لكن جزءاً كبيراً منهم لم ترقه تلك الاصلاحات، فجاءت نتيجة التصويت بـ”لا” بنسبة 52 في المئة، فما كان من الكبير ديغول سوى أن سارع لإعلان استقالة من سطرين أمام ذهول الجميع: “أعلن توقفي عن ممارسة مهامي رئيساً للجمهورية. يصبح هذا القرار نافذاً ظهر اليوم 29 نيسان (أبريل) 1969”. بعدها بسنة فقط غادر ديغول الحياة للأبد تاركاً وصية هي الأخرى من سطرين، حيث طلب في الأول ألا يحضر جنازته رؤساء ولا وزراء، وطلب في الثاني ألا يكتب على قبره سوى “شارل ديغول 1890-1970”.