
بقلم: الدكتور عادل بن حمزة

بعد قرابة ثلاثة أسابيع على احتجاجات ما سُمِّي بـ GENZ212 في المغرب، وما أثارته من نقاشات واسعة داخل المغرب وخارجه، والتي ركزت في مجملها على طبيعة المطالب وسقفها الإصلاحي، ومكونات “الحركة” والأساليب التي تستعملها في الدعاية والتعبئة، والفئة العمرية والخلط بينها وبين مفهوم الطبقة الاجتماعية، ثم التساؤلات حول الرد الرسمي، سواء تعلق الأمر بالدولة أو بالحكومة وفقًا للقواعد السياسية والدستورية والمؤسساتية الجاري بها العمل، إضافةً إلى محاولة هذه النقاشات البحث في الجذور والسياقات المحلية، خاصة في المناطق التي عرفت أحداثَ عنفٍ وتخريبٍ للممتلكات العامة والخاصة، وتميزت كذلك بسلوكات إجرامية بلغت حدّ محاولة اقتحام مخزن سلاح تابعٍ للدرك الملكي… في خضم هذا النقاش، طُرح سؤال المسؤولية المعنوية، بالنسبة للمجموعة المجهولة التي تقوم بالتعبئة والإعلام انطلاقًا من منصة DISCORD. هذه الطبيعة الخفية لمسؤولي الصفحات على المنصة المذكورة، أثارت كثيرا من علامات الاستفهام حول هويتهم الحقيقية، ليس فقط من باب تحديد المسؤوليات، ولو المعنوية منها، ولكن أيضًا من زاوية القدرة على التحكم في الأشكال الاحتجاجية التي تدعوا إليها، والتي لا تلتزم أصلًا بالقواعد القانونية؛ علمًا أن هذا الأمر يمكن تجاوزه من خلال تأطير أمني مهني اكتسب خبرة طويلة، بالنظر إلى ارتفاع معدلات التظاهرات التي يعرفها المغرب، خاصة تلك المساندة للقضية الفلسطينية وغيرها من التظاهرات التي ترفع مطالب اجتماعية، ولكن أساسًا بالحاجة إلى فتح قنوات للحوار، على اعتبار أن الاحتجاج ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة لتبليغ رسالةٍ ومطالبَ يتم التداول حولها بين المحتجين والحكومة.
عناصر هذه الصورة، وبعد توالي الأحداث، تسمح اليوم بإعادة تركيبها وفق قراءة جديدة لهذا الحدث الاحتجاجي في سياق أوسع وبأدوات تحليل مختلفة. وهنا يبرز السؤال عن تأثير العوامل الخارجية في ما حدث، خاصة في ظل تواتر عددٍ من الأحداث على مدى أكثر من سنة، شكّلت المنصات الإلكترونية فضاءً لها، وتمركزت حول سرديةٍ تركز على ملفات الفساد وتقديم أرقام مغلوطة بخصوص عدد من المشاريع، والتغطية على الحقائق من خلال عمليات تضليلٍ ممنهج، ثم تطور الأمر لاحقًا إلى الحديث عن صراعٍ داخل المؤسسات الأمنية.
عند منتصف هذه السنة، بين أبريل ويونيو، انتقل الأمر إلى هجماتٍ سيبرانية استهدفت مؤسساتٍ مغربية رسمية ذات طابعٍ اقتصادي واجتماعي، وهي: الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS) والوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطية (ANCFCC)، من قبل مجموعة تُدعى “جبروت” (Jabaroot)، وهي مجموعات إلكترونية تنشط في منتديات الاختراق ووسائل مشاركة الملفات (BreachForums / Telegram / Dark Web)، عند مراجعة تقارير خبراء الأمن السيبراني (DarkReading, ReSecurity, Zecurion, Cybelangel)، يتضح أن الإعلان عن الاختراق الذي تعرضت له بيانات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ظهر في منتدى “BreachForums” بتاريخ 8 أبريل 2025، تحت عنوان “Morocco National Social Security Fund (CNSS) – FULL DATABASE LEAKED 2025”.
أظهرت التقارير أن البيانات المكشوفة تشمل:
معلومات مؤسساتية حول الشركات: الاسم، الرقم التعريفي، تاريخ الانضمام، معلومات الاتصال، تفاصيل الحساب البنكي، وغيرها. ومعلومات الأفراد: الاسم الكامل، رقم البطاقة الوطنية / جواز السفر، تفاصيل الرواتب، البريد الإلكتروني، أرقام الهواتف، وإقرارات الضمان الاجتماعي وغيرها، علما أن بعض الوثائق كانت حديثة جدا، إذ تُظهر تواريخ تصل إلى نوفمبر 2024.
تم التركيز على بياناتٍ تخص شخصياتٍ وكياناتٍ إقتصادية بعينها، من دون أن يترافق ذلك مع طرح تلك البيانات للبيع في الغرف المظلمة للإنترنت، كما جرت العادة في عمليات القرصنة، وهو ما يُظهر أن الهدف الأساسي كان سياسيًا، يرمي إلى خلق ارتباكٍ يهز الثقة والاستقرار في بنية السلطة وداخل المجتمع. وقد تُوِّجت تلك الهجمات السيبرانية بدعواتٍ مجهولة للتظاهر عبر منصةٍ للألعاب الإلكترونية، محاولةِ الربط بين ما جرى ويجري في نيبال وما يجري في مدغشقر، بهدف خلق صورةٍ ذهنيةٍ تقفز على الاختلافات الكبيرة التي تجعل من غير الممكن موضوعيًا بناء مقارنةٍ بين المغرب ونيبال ومدغشقر. ويبدو أن الجهة التي كانت وراء تسريع الدعوة إلى الاحتجاج في الشارع المغربي، اعتبرت ما يجري في نيبال ومدغشقر فرصةً يجب استثمارها لاستهداف المغرب.
ما أشرنا إليه سابقًا من توظيفٍ للمنصات الإلكترونية، وحربِ المعلومات، والهجمات السيبرانية، والطابعِ السري لمحركي الاحتجاجات، ومحاولةِ خلق تأثيرٍ نفسي واجتماعي، كلها عناصر تُكوِّن ملامح حربٍ هجينةٍ من حروب الجيل الخامس، التي تستعمل وسائل التكنولوجيا بهدف زعزعة الدول والتأثير على استقرارًا لأسباب سياسية وإقتصادية.
توظيف الشباب من الجيل Z، يجد مبرره في كون أكثر من ثلثي هذا الجيل لا يبني مقارنةً بين مغرب اليوم ومغرب الأمس، ولا بين المغرب والدول المماثلة، أي أن التأثير على قدراته الإدراكية يعطي نتائج أكبر بالمقارنة مع الأجيال الأخرى التي تعي جيدًا حجم التحولات والتطورات التي عرفها المغرب على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحقوقية. علمًا أن الجيل Z، ونظرًا لحجم اتصاله بالعالم الافتراضي، يبني مقارناته أساسًا مع الغرب والدول المتقدمة الأخرى، لكنه يُسقط الشروط التاريخية والسياقات المحلية والإقليمية والدولية التي ساهمت في تحقيق تلك الدول لنهضتها، كما أنه لا يستطيع أن يدرك حجم المنجز الوطني وفقا للإمكانيات التي يتوفر عليها ولا يجري مقارنة بينه وبين محيطه الإقليمي والجهوي خاصة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
كما أن رفع مطالب تتعلق بالمدرسة والصحة ومحاربة الفساد، وهي مطالب إصلاحية يتفق الجميع على أهميتها، لم يكن من باب الصدفة، بل لأنها تملك قدرةً واسعةً على التعبئة، حتى وإن لم تكن مطالبَ جيليةً خالصة، أي خاصة بالجيل Z، كالمطالب المتعلقة بالصحة مثلًا.
يبقى السؤال: مَن يستهدف المغرب؟ ولماذا المغرب؟ ولماذا الآن؟
هذا ما سنجيب عنه في المقال القادم.