بوشعيب أمين / إيطاليا
ولأنّ الشوق كبير، والارتماء في أحضان الوطن لحظة لا تُنسى، فإنّ كل شيءٍ يهون، لذلك أحرص كل الحرص على قضاء بعضا من أيام إجازتي السنوية بالمغرب. هذه السنة قضيتُ هناك الأواخر من شهر رمضان الفضيل، وأيام عيد الفطر المبارك.
لشهر رمضان أو “سيدنا رمضان” كما يسميه المغاربة، طابع مميّز وسحر خاص، ففيه يحرص الناس، على عيش أيامه وفق طقوس وعادات متوارثة جيلاً عن جيل، يلقنها الكبار للصغار. وفيه تكثر أعمال التضامن والتكافل، حيث يقوم بعض المحسنين بإعداد ما يسمّى “قفة رمضان” تضم المواد الغذائية الأساسية، وتوزيعها على الأسر الفقيرة. بينما يقوم البعض الآخر بإعداد موائد يطلق عليها “موائد الرحمن” مخصصة لإفطار الصائمين وخاصة المحتاجين والمغتربين.
ومن المظاهر الجميلة احتفالا بالعشر الأواخر الرمضانية، قيام الجيران الذين يقطنون في نفس الحي، بالمبادرة إلى جمع ما يستطيعون من مال -كل على قدر استطاعته- ليشتروا بها قبل حلول عيد الفطر، ملابس يوزعونها على الأطفال الأيتام والمعوزين، عملا بما جاء في قول النبي الكريم الذي يوصي بإغناء الفقراء والمساكين عن السؤال يوم العيد.
بينما كنتُ في الطائرة التي ستقلّني إلى المغرب، جالت بخاطري عدة أسئلة، وأنا أستحضر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تواجهها الأسر المغربية، جراء الغلاء وارتفاع أسعار المواد الأساسية، وتداعيات التضخم والجفاف، التي زادت من تدهور القدرة الشرائية للمواطنين، فقلت في نفسي كيف يواجه المغاربة كل هذه الظروف القاسية في ظل حكومة صماء، تتجاهل معاناتهم؟ ثم جالت بخاطري عشرات المقالات التي انتقدت فيها السياسة الحكومية والتي كانت سببا في تأزيم الأوضاع، تذكرت مقالات كتبتها عن اللصوص الكبار المتورطين في قضايا اختلاس المال العام، وأخرى سلّطتُ الضوء فيها على ملفات الفساد والجرائم المالية التي تستنزف الناتج الداخلي الخام، وثالثة تناولتُ فيها الرشوة والزبونية والتلاعب في الصفقات العمومية، ومن خلال هذه المقالات طالبتُ بشنّ حملات تطهير ضد الفساد والمفسدين، وتقديمهم إلى العدالة. وجالت بخاطري مقالات كتبتها عن القضاء ودوره في استفحال الفساد، وعن الأحزاب والنقابات التي أصبحت ملاذا للمفسدين والانتهازيين في تحقيق مآربهم الشخصية، ومصالحهم الخاصة. وفي نفس السياق تناولت العلاقة المباشرة، وغير المباشرة للبرلمان المغربي في تقنين الفساد، وتامين المفسدين، دون أن أنسى التطرّق إلى العجز الذي أبانت عليه الحكومات المتعاقبة في الحد من ظاهرة الفساد الذي نخر جسم البلاد.
وسألت نفسي: ما الذي تغير؟ لا شيء. هل ضاع الحلم بالوطن الجميل الذي كنتُ أنشده من خلال مقالاتي؟ وهل مقالاتي ليست سوى صيحةٍ في واد؟ ومهما يكن سأظل أكتب، وأكتب حتى يتحقق الحلم الجميل!
لدى وصولي إلى وجهتي المقصودة، التقيت أحد الأصدقاء، فبادرته بالسؤال: كيف تواجهون هذا الواقع المرير؟
ردّ صاحبي بأن البارون الذي وعد المغاربة، بالأحسن لم يفِ بوعوده، وترك المغاربة وجها لوجه مع المضاربين، وأرباب شركات المحروقات، الذين يجنون أرباحا لاأخلاقية ولا شرعية على حساب جيوبهم المنهكة أصلا.
قلتُ لصاحبي: من تقصد بالبارون؟ قال: إنه رئيس الحكومة الملياردير عزيز أخنوش. فقلت له: إنه لا يستحق هذا اللقب. فالبارون لقب نبيل أرستقراطي، يطلق على مستشار الملك أو الصديق المقرب منه. هزّ صاحبي رأسه بالإيجاب. وأردفت قائلا: أما نحن مغاربة إيطاليا فنطلق عليه لقب: “الكومبرادوري”
قال: وما “الكومبرادوري”؟
قلت: هو من ينتمي إلى طبقة البورجوازية، التي سرعان ما تتحالف مع رأس المال الأجنبي، تحقيقا لمصالحها وللاستيلاء على السوق الوطنية. والكومبرادوري أيضا هو صاحب ثروة نقدية كبيرة راكمها بالوراثة أو بوسائل انتهازية مشبوهة، أفلا ترى أن هذه الأوصاف تنطبق عليه تمام الانطباق؟
قال: بلى. قلت: والنتيجة هو المزيد من الثروات لأمثال هؤلاء، وفي المقابل المزيد من التأخر والتخلف في الصناعة والفلاحة والزراعة والمنتجات الوطنية.
قال صاحبي: يبدو أن الشعب المغربي يتعرض لعقاب جماعي من قبل حكومة أخنوش؟ قلتُ: ربما. قال: لقد توعّد أخنوش في العام 2019، عندما كان وزيرا للفلاحة في حكومة سعد الدين العثماني ب “إعادة تربية المغاربة” واليوم، ها هو ينفّد وعيده بعد أن أصبح رئيسا للحكومة.
قلتُ: نعم أذكر ذلك الوعيد، الذي أطلقه أخنوش من مدينة ميلانو الإيطالية، وقد أثار حينذاك موجة غضب عارمة في وسط الشعب المغربي، واعتبرها العديد من الناشطين في الشبكات الاجتماعية تحريضا على العنف، وضربا عرض الحائط بالقوانين والمؤسسات.
قال صاحبي: إن أخنوش لم ينسَ سنة 2018، حيث قاطع فيها المغاربة إحدى أبرز شركاته، وهي شركة “إفريقيا غاز” الناشطة في مجالات الغاز والوقود والزيوت، الشيء الذي أدى الى انخفاض أسهمها في سوق البورصة، وتراجع ثروته.
قلتُ نعم، لقد أبدع المغاربة في ذلك إبداعا حضاريا يتّسم بالسلمية واحترام القانون، وهي حملة غير مسبوقة في المغرب، وخطوة احتجاجية ناجحة ضد غلاء الأسعار، وجشع شركات الوقود.
قال صاحبي: وهل عجز المغاربة على توقيع نسخة ثانية، لمقاطعة أخنوش وشركاته احتجاجا على ما يعانونه اليوم؟
قلت: لا، ولكن ما يدريك ما تخبّئه الأيام، فالمغاربة قادرون على إبداع أشكال أخرى لمواجهة هذا التسلّط الذي تمارسه طبقة الكومبرادور التي يقودها عزيز أخنوش باسم الحكومة المغربية. واعلم أن المغاربة شعب صبور حقا، لكن إذا طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، فلن يبق في قوس الصبر منزع.
فلاش: في هذه الزيارة، التقيت الأهل والأحباب والجيران، فرأيت منهم العجب، فرغم الظروف الاجتماعية الضاغطة، ورغم صدمة التضخم وغلاء الأسعار والقدرة الشرائية المتدهورة، إلا أنني لم أسمع منهم تذمرا أو شكوى لغير الله عز، “حسبنا الله ونِعم الوكيل” هذا ما كان يرددونه كلما سألت أحدهم عن أحواله وأوضاعه المعيشية. والأعجب انهم يتحملون كل هذه الصعوبات بصبر وجَلدٍ، ضاربين أروع مثال لقيم المواساة والتضامن والتكافل فيما بينهم.
وبينما أنا كذلك همس أحد الجيران في أذني: إن تلك الصور الرائعة من المواساة والتضامن التي أدهشتك، كان لكم -أنتم مغاربة العالم- اليد الطولى فيها، حيث تقومون بتقديم العون المادي لإخوانكم داخل المغرب، عبر تحويلات نقدية في كل شهر، ولولا ذلك لما استطاع كثير من الناس هنا، مواجهة لهيب الغلاء