
الصحافي أمين بوشعيب/إيطاليا

آية نزلت قديما، لكنها تُتلى اليوم في وجه من خان، وصمت، وباع.
يقول الله عز وجل في سورة التوبة: “وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ”
في زمن طوفان الأقصى، تتجلى هذه الآيات من القران الكريم في وجوه من تقاعسوا عن نصرة الحق. وتبيّن خاصة في مواضع الجد والخطر، أولئك الذين غاية سعيهم هو القول، وكانوا يطمئنون الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج في سبيل الله تعالى، لكن واقع حالهم يقول إنهم لا ينوون ذلك، فلو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة، لا مجرد الكلام، ولكن لأنهم ليسوا أهلا للنصر وحب الله، فثبّطهم، وقعدوا مع القاعدين حين كانت ميادين الشرف والبطولة، فجاءهم الرد واضحا: “ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين” فأنتم عبءٌ لا عون.
هذه ليست مجرد آية تتحدث عن منافقي المدينة زمن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لكنها تبدو وكأنها تشخص حال بعض الحكام العرب اليوم، ممن قعدوا حين وجب النهوض، وسكتوا حين وجب الصراخ، وتحالفوا حين وجب المقاطعة. فها هم يرون غزة تباد على الهواء مباشرة، فيما يكتفي بعض القادة العرب بالصمت، أو بإبرام الصفقات، أو حتى بلوم الضحية، ومنهم من يقول دون أن يرف له جفن: “هذه ليست معركتنا”.
والمفارقة الصادمة، كما جاء في الآيتين الكريمتين، هي لو خرج هؤلاء فعلاً، لما زادوا صف المقاومة إلا ضعفاً وخيانة، ولما جلبوا إلا الفتنة والانقسام، فمنهم من يشيطن المقاومة، ومنهم من يساوي بين المحتل والمحتَلّ بين الجلاد والضحية، ومنهم من يسوّق الرواية الإسرائيلية. أليست هذه الآيات نبوءة حالهم؟ ألم يصبح بعضهم “سماعين لهم” كما قالت الآية؟ يتلقّون أوامرهم من عواصم القرار الصهيوغربي، ويعيدون إنتاجها على شعوبهم، بلا خجل ولا تأنيب ضمير.
لكن الخذلان لم يقتصر على الساسة، بل امتد إلى كثير من المنابر والعلماء. فحين تُقصف غزة على الهواء، وتُنتشل جثث الأطفال من تحت الركام، نرى صمت المنابر، وغياب الفتاوى التي تلزم نصرة الأخوة في الدين، وكأن الدم الفلسطيني لا يستحق حتى دعوةً في خطبة جمعة. فأين صوت العلماء؟ وأين الذين كانوا يملؤون الدنيا جدالًا حول الموسيقى والجزية؟ لماذا خفتت أصواتهم اليوم في زمن الفسفور الأبيض والقتل الجماعي؟ هل شلّهم الخوف؟ أم اختاروا “السلامة” على الشهادة؟
حسب اعتقادي، هناك ثلاث علل تقف وراء هذا الصمت المؤلم، فأما العلّة الأولى فهي التبعية السياسية حيث نجد أن المؤسسات الدينية الرسمية لا تتحرك إلا بإذن الحاكم. وأما العلة الثانية فهي الخوف من تُهمة التصنيف ( إثارة الفتنة والتحريض على الخروج على الحاكم وتسييس الدين) وأما العلة الثالثة فهي موت الضمير لدى هؤلاء المعَّممين حين اعتادوا الحياد حتى في زمن المذابح.
لكن، حين نقول هذا، فنحن لا نطلب من العلماء أن يفتحوا الجبهات، وأن يحملوا السلاح للذهاب إلى جبهات القتال، بل ننتظر منهم فقط أن يقولوا كلمة حق. وأن يسمّوا الظلم ظلمًا، والعدوان عدوانًا، وأن يستنهضوا الهمم لنصرة إخوة في الدين يذبّحون ويقتّلون على المباشر.
والخلاصة التي أصبحت ظاهرة للعيان أن الطوفان، غربل الله به المواقف إلى فئتين متباينتين: مقاومة تقاتل بإيمان لا ينكسر تسندها شعوب تهتف وتقاطع وتتحرك لكسر الحصار ودعم أهل غزة، وحكّام وعلماء، قعدوا مع القاعدين، كما وصفتهم الآية الكريمة.
فلاش: لقد ضيّع العرب فرصة تاريخية لكسر شوكة الكيان الصهيوني، حيث كان يمكن لـ”طوفان الأقصى” أن يتحول إلى تسونامي تحرير فلسطين والقدس من يد الصهاينة، لولا أن الحكام اختاروا أن يدفنوا رؤوسهم في رمال التطبيع والخوف. ماذا لو فتحوا كل الجبهات ؟ ماذا لو أمّن العرب حاضنة سياسية ومالية وعسكرية للمقاومة الفلسطينية؟ ماذا لو فُتحت الحدود لكسر الحصار؟ ماذا لو ارتفعت أصوات العلماء من كل منبر بدل أن تهمس همسًا خائفًا؟ فلو ولو ولو لانهارت إسرائيل في 24 ساعة.
وها هي عملية “الوعد الصادق 3” جاءت لتفتح مرحلة جديدة من المواجهة مع الكيان الصهيوني، عملية ليست فقط رسالة عسكرية ميدانية، بل دعوة صريحة لكل الدول العربية لإعادة التموضع أمام عدو لم يتوقف يومًا عن قضم الأرض وقتل الإنسان وتدنيس المقدسات. لكن المعركة لا يمكن أن تُخاض من إيران أو من غزة أو اليمن فقط، ولا يمكن أن تنتصر بندقية واحدة في وجه ترسانة نووية مدعومة أمريكيًا وغربيًا. وهنا يبرز السؤال المصيري: هل يلتقط الحكام العرب هذه اللحظة المفصلية؟ هل تكون “الوعد الصادق 3” نقطة تحوّل، أم سيتضيع من أيدي العرب كما ضاعت فرصة طوفان الأقصى؟
إن الفرصة قائمة، واللحظة مواتية، والدماء التي تسيل في غزة، والصواريخ التي تنطلق من اليمن ومن إيران، كلها حلقات من معركة واحدة، اسمها كسر شوكة إسرائيل، وكسر عقدة الهزيمة، وتصحيح مسار طويل من الخضوع والمراهنة على الغرب، وهي نداء لكل من تبقى له ضمير.
فهل يُعقل أن تبقى أغلب الأنظمة العربية خارج هذا المعترك؟ وهل يعقل أن تظل جيوش العرب مشلولة، تنظر من بعيد بينما أطفال فلسطين يحترقون بالنار والرصاص؟