
بقلم: الدكتور عادل بن حمزة

في قلب طهران، خلف بوابات عالية وأسوار رمادية، يقف سجن إيفين كأكثر من مجرد مبنى احتجاز؛ إنه مرآة مظلمة للسياسة الإيرانية منذ عهد الشاه وحتى الجمهورية الإسلامية. كان من المثير حقا أن يكون سجن إيفين من بين آخر الأهداف التي قصفتها الطائرات الإسرائيلية دون أن يلفت ذلك كبير اهتمام.
ليس صدفة أن يكون هذا السجن قد ضم بين جدرانه أسماء من النخبة الفكرية والسياسية المعارضة، بدءًا بمعارضي رضا بهلوي وانتهاءً بمعارضي آيات الله في الجمهورية الإسلامية من الخميني إلى خامنئي. وقد وثّق الكاتب والأكاديمي الإيراني إحسان نراغي جانبًا مهمًا من هذه التحولات في كتابه اللافت من “بلاط الشاه إلى سجون الثورة” وهو كتاب/شهادة مقسم إلى جزئين، الأول يتحدث فيه نراغي عن اللقاءات التي جمعته بالشاه في قصره خلال الشهور الأخيرة من نهاية نظامه أما الجزء الثاني فيسرد فيه تجربته الشخصية ولقاءاته داخل سجن إيفين بعد نجاح الثورة مع وجوه بارزة من نظام الشاه المدنيين والعسكريين والأمنيين، في لحظة تاريخية مفصلية بين نهاية نظام الشاه وبزوغ الجمهورية الإسلامية.
كان إحسان نراغي رجلًا مثقفًا وناقدًا، عمل مستشارًا ثقافيًا وكتب في قضايا التنمية والمجتمع المدني وكان أحد أبرز خبراء منظمة اليونسكو. لكنه، رغم مواقفه النقدية زمن الشاه والتي تستند على خلفية أكاديمية رصينة، فإنه لم ينجُ من السجن بعد الثورة. هذا الانتقال من بلاط الحكم إلى زنازين إيفين يختصر قصة إيران الحديثة بكل تناقضاتها. ففي لحظة انهيار النظام البهلوي، لم يكن السجن فقط مكانًا للاعتقال، بل صار مسرحًا لحوارات غير متوقعة بين من كانوا يومًا ما على طرفي نقيض: رجال أمن الشاه ومعارضيهم، الذين سرعان ما أصبحوا بدورهم سجّانين أو سجناء في النظام الجديد، خاصة بعد التصفيات السريعة التي قام بها الخميني لشركائه في الثورة من شيوعيين وليبراليين.
من أغرب المفارقات التي وثقها نراغي بحس سوسيولوجي عالي هي تلك الحوارات التي كانت تدور في الزنازين بين رموز النظام البائد ومعارضيه. أظهر ذلك أنه في عتمة السجن، تسقط الحواجز الإيديولوجية مؤقتًا، ويظهر الإنسان بما يحمله من قلق فكري وأسئلة وجودية. تحدث نراغي عن ضباط من السافاك (جهاز أمن الشاه) وجدوا أنفسهم يحاورون شيوعيين، وماركسيين يتحاورون مع رجال دين. كانت تلك الحوارات، رغم قسوة المكان، محاولات لفهم ما جرى وما يمكن أن يحدث.
وفي هذا، يتحول السجن من مجرد مكان للقمع إلى مختبر سياسي عميق، يجري فيه تقييم التجربة الإيرانية بكاملها: أخطاء الشاه، انحرافات الثورة، وهموم المثقف، وقلق الإنسان العادي. فالسجين لم يكن مجرد متلقٍ للعقاب، بل مشاركًا في إنتاج وعي سياسي جديد، حتى لو وُئد لاحقًا.
لكن سجن إيفين لم يكن، ولم يزل، مجرد فضاء للحوار أو النقاش. إنه رمز للقمع المستمر، بغض النظر عن من يملك زمام السلطة. ما إن استقر نظام آيات الله حتى امتلأت الزنازين بمعارضيهم: مثقفون، طلاب، نساء، مناضلون علمانيون، وأعضاء في جماعات دينية أخرى. ومن سخرية التاريخ وعبثية السياسة أن كثيرًا من الذين عانوا من بطش الشاه وجدوا أنفسهم يمارسون القمع ذاته بعد أن تولوا السلطة.
هكذا أصبح سجن إيفين ذاكرة مزدوجة: ذاكرة ألم ومقاومة لدى ضحاياه، وذاكرة نفاق سياسي حين يستعيده البعض من دون الاعتراف بخطاياهم بعد الثورة. إن قراءة/شهادة نراغي توضح هذا التعقيد، فهو لا يتحدث عن سجنه كضحية فقط، بل كشاهِد على عبثية الانتقال من دكتاتورية إلى أخرى تحت شعارات مختلفة.
تاريخ سجن إيفين هو في جوهره تاريخ لتذبذب الهوية السياسية في إيران. فالبلاد التي حلمت بالديمقراطية منذ أوائل القرن العشرين، لم تنجُ من توارث أدوات القمع وتكرارها. في هذا السياق، يمثل إيفين فشلًا رمزيًا للنخبة الحاكمة، أيًا كان لونها، في بناء دولة عادلة. وهو أيضًا تذكير بأن سجون الطغاة ليست فقط أماكن للموت، بل يمكن أن تكون أماكن ولادة لأفكار جديدة، حتى وإن قُمعت لاحقًا.
إن قراءة تجربة إحسان نراغي، لا سيما من خلال كتابه الذي يجمع بين السيرة والتأمل السياسي، تجعلنا نعيد النظر في مفهوم “الحرية” و”الثورة”. فالسجون ليست مجرد نهاية المسار السياسي للمثقف أو المناضل، بل قد تكون بدايته الفعلية. وسجن إيفين، رغم ظلاله الثقيلة، كان مدرسة غير متوقعة لفهم آليات السلطة والنفاق السياسي والتحولات الفكرية في المجتمع الإيراني.
فهل ستبقى الزنازين أعمق من المنابر في إنتاج الوعي؟ وهل سيأتي يوم يُغلق فيه إيفين، لا لأنه خالٍ من السجناء فحسب، بل لأنه لم يعد ضروريًا؟ هذا السؤال، كما يبدو، ما زال معلقًا في سماء طهران، ينتظر من يملك الشجاعة ليجيب عليه، لا من يمد في عمره بملئه بسجناء جدد على خلفية الحرب الأخيرة.