بقلم : د. عادل بنحمزة
قال الشاعر محمود درويش في إحدى إشراقاته: “الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء…”، هكذا هو المغرب منذ ليلة الجمعة والسبت الماضيين، تلك الليلة المؤلمة التي تعرّض فيها جزءٌ كبيرٌ من البلاد إلى هزة أرضية عنيفة، كان مركزها في إيليغ بمحافظة الحوز ضواحي مراكش. وجعٌ كبير لا يوصف على من رحلوا وعلى من كُتب لهم عمر جديد في مناطق قاسية تضاريسياً ومناخياً، وأيضاً من جهة شظف العيش ومرارة كسرة الخبز… مناطق صعبة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أو قل، بكل ما تعجز الكلمات عن وصفه من معنى، لما تعرفه تلك المناطق من تهميش على مستوى السياسات العامة ولعقود طويلة.
كثيرون في “الدواوير”، وهي تجمّع سكاني بالأمازيغية، سوّيت بالأرض في محافظات تارودانت والحوز وأمزميز وشيشاوة وغيرها، رفضوا أن يغادروها وهم أحياء، وفضّلوا أن يخوضوا لعبة الحياة مع الموت الذي يتربّص بهم هناك في أعالي الجبال، حيث قضوا كل عمرهم مقتنعين بالقضاء والقدر، وبما يصلهم من فتات المركز… صبورين بشوشين مضيافين تسبقهم سمعتهم أينما حلّوا وارتحلوا… الأخبار المؤكّدة تتحدث عن إبادة كاملة لعدد من “الدواوير”، وكأنّ ما اشتهرت به تلك المناطق من تضامن جماعي وهم على قيد الحياة قد امتد تضامناً في الموت.
هل نجح المغرب حتى الآن في التعامل مع تداعيات الزلزال؟ لا شك في أنّه بعد مرور أكثر من أسبوع على الفاجعة، أظهر المغرب تعبئة كبيرة واستجابة من المستشفيات للضغط الاستثنائي، وفُتح الكثير من الطرق والمسالك في وقت قياسي، ما أدّى إلى فك العزلة عن عدد من المناطق المنكوبة رغم قساوة التضاريس. ولم يطلب المغرب حتى الآن تغطية حاجاته سواء في المؤن أو الخبراء أو الأدوية، واستجاب فقط لأربعة عروض للمساعدة التقنية من أربع دول.
المساعدات الخارجية هي تعبير إنساني رمزي، لكنه في الوقت نفسه تعبير سياسي ودبلوماسي، يعكس قيمة الدولة وحجم التضامن الدولي معها، وعلى هذا المستوى لاحظ الجميع كيف تداعت كل دول العالم إلى التعاطف مع المملكة وعرض تقديم المساعدة فور طلبها من المغرب. اعتذار المغرب عن قبول المساعدات التي عرضتها الدول الشقيقة والصديقة والمنظمات الدولية، يجد تفسيره في كون البنية التحتية والتجهيزات الأساسية في المغرب جيدة في أدائها في كل ما يتعلق بالكوارث، كما أنّ المواطنات والمواطنين عبّروا بشكل ملحمي عن تضامن استثنائي، ظهر في الإقبال الكثيف على مراكز التبرّع بالدم في كل المدن المغربية، وفي توفير كميات هائلة من الطعام والماء والأغطية والملابس، بما في ذلك المبادرات التي تقوم بها الجالية المغربية وأصدقاء المغرب في الخارج.
دول العالم احترمت قرار المغرب السيادي، لكن في باريس كان لجزء من الطبقة السياسية والنخب الفرنسية خصوصاً في وسائل الإعلام، رأي آخر…
الفرنسيون قاموا بتسييس موضوع اعتذار المغرب عن قبول المساعدات الخارجية، وتحوّل الأمر إلى جدال على شاشات القنوات التلفزيونية وعلى صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية، واستعادت جوقة الإعلام الفرنسي النَفَس التحريضي على كل ما يتصل بالمغرب، وفق منطق أننا نريد أن نساعدكم لكن حكومتكم تمنعنا من ذلك… صحيحٌ أنّ أصواتاً فرنسية رزينة تصدّت لهذه الحملة مثل وزير الخارجية الفرنسي الأسبق دوفيليبان وزعيم “فرنسا الأبية” ميلونشون، ورشيدة داتي المغربية الفرنسية والوزيرة السابقة، إضافة إلى أسماء أخرى بمن فيهم الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، لكن مع ذلك، فإنّ أزمة المساعدات الفرنسية كشفت إلى أي حدّ بلغت القطيعة بين باريس والرباط، حتى أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وفي خطوة غير محسوبة قوبلت باستهجان كبير في المغرب، توجّه بخطاب مباشر إلى المغاربة، محاولاً تطويق تداعيات الجدل الذي أثاره الإعلام الفرنسي، ومؤكّداً أنّ قبول المساعدات قرار سيادي يعود إلى ملك المغرب وحكومته، ولأنّه قليل التجربة والمعنى أيضاً، فإنّ خطوته تلك أدّت إلى نتائج عكسية وعمّقت الجمود في العلاقات الثنائية الذي وصل إلى القطيعة على المستويين السياسي والدبلوماسي.
كشفت إلى أي حدّ بلغت القطيعة بين باريس والرباط، حتى أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وفي خطوة غير محسوبة قوبلت باستهجان كبير في المغرب، توجّه بخطاب مباشر إلى المغاربة، محاولاً تطويق تداعيات الجدل الذي أثاره الإعلام الفرنسي، ومؤكّداً أنّ قبول المساعدات قرار سيادي يعود إلى ملك المغرب وحكومته، ولأنّه قليل التجربة والمعنى أيضاً، فإنّ خطوته تلك أدّت إلى نتائج عكسية وعمّقت الجمود في العلاقات الثنائية الذي وصل إلى القطيعة على المستويين السياسي والدبلوماسي.
ماكرون منذ انتخابه في الولاية الأولى أظهر أنّه عنوان أزمة… أزمة النخبة السياسية والحزبية في فرنسا، وإحدى نتائج الانهيار الكامل للثنائية الحزبية، وما بقي في أيدي الفرنسيين من تصويت عقابي على اليمين المتطرّف ممثلاً في السيدة لوبين، إذ إنّ انتخاب ماكرون لولايتين، وفي الدورة الثانية، كان بالنسبة للفرنسيين كالمستجير من الرمضاء بالنار، ومجرد اختيار بين السيئ والأسوأ، وقد ظهر ذلك واضحاً في التهاوي المستمر لشعبية الرجل في استطلاعات الرأي، لكن الأهم من ذلك هو الخسائر التي تكبّدتها فرنسا في عهده، ذلك أنّها خرجت بصفة شبه نهائية من أفريقيا وتقلّص نفوذها في الدول الفرنكوفونية في القارة بشكل غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الخامسة، كما أنّ دورها بات هامشياً في الأزمات الدولية الكبرى مثل الحرب على أوكرانيا، بل إنّ ضعف الشخصية الدبلوماسية الفرنسية في عهد ماكرون امتد إلى العلاقات مع الحلفاء، وهنا نستحضر قرار أستراليا إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية واستبدالها بأخرى أميركية، في ضربة موجعة للصناعة العسكرية الفرنسية.
وبالرغم من هذا “القوس الهامشي” الذي فتحه جزء من النخبة الفرنسية في لحظة حداد في المغرب، تبقى صور وتصريحات الضحايا والأفراد الذين فقدوا أسرهم وهم يتحدثون بألم يعتصر الفؤاد، وأخبار الرحيل الجماعي لساكني “دواوير” بكاملها، مثلما راج عن دوار تيكيخت بدائرة مجاط في محافظة شيشاوة، أو فيديو ذلك الرجل الذي حمل ما تبقّى من قوة وصبر وأخذ هاتفه في جولة داخل مركز جماعة “تلاث نيعقوب” الذي سوّي بالأرض، يتحدث بأمازيغية حزينة، مستعرضاً البيوت والمقاهي والدكاكين وأسماء العائلات، داعياً للجميع بالرحمة، هي الصور التي ستبقى في الذاكرة، بعيداً من تفاهة جزء من الإعلام الفرنسي ومن خفّة ساكن الإليزيه، في زمن غاب فيه رجال دولة كبار، أمثال شارل ديغول وجيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وجاك شيراك.