أمام ارتفاع أعداد النزلاء والخصاص المسجل من حيث موظفي السجون وبنيات الاحتجاز، تجد الحكومة الفيدرالية البلجيكية نفسها في مواجهة إشكالية اكتظاظ السجون، التي تؤثر من جهة على الظروف التي يقضي فيها السجناء عقوبتهم، ومن جهة أخرى على ظروف اشتغال موظفي السجون.
وبناء على الأرقام التي تشير إلى أن معدل الاكتظاظ في السجون البلجيكية يتراوح ما بين 115 و120 في المائة لكل مؤسسة سجنية، ما يعادل خصاصا قدره 1500 مكان، نبهت عدة مؤسسات، وعلى رأسها المجلس المركزي البلجيكي لمراقبة السجون، الحكومة الفيدرالية إلى الآثار السلبية لهذا الوضع غير المسبوق، لاسيما من حيث تأثيره على حقوق الأشخاص المحتجزين.
وقد اعتبر المجلس ضمن تقريره السنوي الأخير أن هذا الاكتظاظ يؤثر بشكل خطير على ظروف الاحتجاز ويقوض كرامة وحقوق المحتجزين، مشيرا على الخصوص، إلى انعدام الخصوصية والنظافة، تقليص المدة التي يقضيها المحتجزون في الهواء الطلق، تقييد الولوج إلى الرعاية الطبية، انعدام الأمن، صعوبة إبقاء التواصل مع العالم الخارجي، زيادة تعقيد عملية إعادة الإدماج وتفاقم المشاكل النفسية، فضلا عن ارتفاع حالات ومحاولات الانتحار.
ولعل الضغط الذي أضحت تعاني منه السجون في بلجيكا هو ما حذا بغالبية الموظفين العاملين في هذه البنيات إلى خوض إضراب لمدة 48 ساعة ابتداء من مساء يوم الأحد الماضي، وذلك تنديدا بظروف الاحتجاز والعمل داخل المؤسسات السجنية التي تصفها النقابات بـ “اللا إنسانية”، ومن أجل دق ناقوس الخطر حيال اكتظاظ السجون ونقص الموظفين.
لكن هذا التحرك النقابي يأتي أيضا كرد فعل على سياسة وزارة العدل الفيدرالية، التي يوجد على رأسها الليبرالي-الديمقراطي الفلاماني، فنسنت فان كويكنبورن، و”الذي يصر”، بحسب الفاعلين النقابيين، على الرغبة في تطبيق الأحكام السجنية قصيرة المدة بأي ثمن، لاسيما قبل نحو تسعة أشهر من الانتخابات الفيدرالية والإقليمية المقبلة.
وفي هذا الصدد، تقول كلودين كوبيين، السكرتيرة الدائمة لنقابة “سي. إس. سي” للخدمات العمومية، إن “الوزير (فنسنت فان كويكنبورن) مصر على رغبته في الزج بالأشخاص المحكوم عليهم بعقوبات تتراوح بين 0 و3 سنوات في السجن، لكن لا توجد هناك أمكنة !، الناس يفترشون الأرض، بالنظر إلى أنه يتم وضع ثلاثة أشخاص في زنازين مخصصة لإيواء شخص واحد فقط”.
من جانبه، يقول غريغوري واليز، السكرتير الفيدرالي بنقابة “سي. جي. إس. بي” إنه إذا كانت الغاية السياسية للوزارة، من خلال تنفيذ أحكام قصيرة المدة، هي وضع حد للإفلات من العقاب، فإن هذا الأمر يتعين أن يسير جنبا إلى جنب مع فتح نحو خمسة عشر مركز احتجاز، حتى يتسنى استيعاب حوالي 600 معتقل جديد، مضيفا: “في الوقت الراهن، هناك ثلاث فقط من هذه المؤسسات قيد الخدمة: اثنتان بالجهة الفلامانية وواحدة في بروكسيل”.
وفي ظل هذا الوضع، عرف سجن تورنهاوت التابع لمقاطعة أنفيرس، مساء الجمعة الماضي، حركة تمرد شهدت قيام عشرات المعتقلين بأعمال تخريب، مع رفضهم الانصياع لأوامر الحراس بالعودة إلى الزنازين، ما استدعى تدخل وحدات الشرطة الخاصة لإجبارهم إلى العودة.
من جهة أخرى، يعتبر المسؤولون النقابيون أن بلجيكا تلجأ إلى “الاحتجاز الوقائي على نحو مبالغ فيه، ما يؤدي أيضا إلى نتائج عكسية”، مطالبين كحل أولي بمراجعة سياسة العقوبات السجنية قصيرة المدة.
وإزاء السيل العرم من الانتقادات التي أضحت توجه إليه بشأن إشكالية تدبير السجون، أعلن فان كويكنبورن، أمس الإثنين، عن افتتاح مركز احتجاز جديد في أنفيرس بعد صيف العام 2024، والذي سيمكن من إيواء الأشخاص المحكوم عليهم بعقوبات سجنية قصيرة المدة، موضحا في بيان بهذا الخصوص، أن هذه البنية الأصغر حجما ستتيح “للمدانين فرصة المشاركة في أنشطة مفيدة (…) والاستعداد قدر الإمكان لإطلاق سراحهم، دون الوقوع مرة أخرى في براثن الجريمة”.
ومع ذلك، فإن العديد من مؤسسات الرقابة، وعلى رأسها المجلس المركزي البلجيكي لمراقبة السجون، توصي باتخاذ التدابير المناسبة والكافية لقياس ومراقبة ارتفاع عدد نزلاء السجون، وضمان ظروف احتجاز إنسانية وكريمة للأشخاص الذين يقضون عقوباتهم، مع تشجيع اللجوء للعقوبات غير السالبة للحرية، فضلا عن رفع مستوى الوعي لدى القضاة والمدعين العامين حول الدور الذي ينبغي أن يضطلعوا به في مسألة اكتظاظ السجون.
وبحسب المراقبين، فإن حكومة ألكسندر دو كرو مدعوة إلى معالجة هذه الإشكالية بأكبر قدر من التوازن حتى لا تثير حفيظة البلجيكيين الحريصين على أمنهم أكثر من أي وقت مضى، وذلك على بعد أشهر من الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.