

أطلق حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي يقود التحالف الحكومي، مبادرة رقمية جديدة تحمل اسم “إنصات”، قيل إنها تروم فتح قنوات تواصل مباشر مع المواطنين، والاستماع إلى همومهم وانتظاراتهم. لكن سرعان ما تحولت هذه المبادرة، من وجهة نظر فئات واسعة من المغاربة، إلى تمرين فاقد للمصداقية، لا يرقى إلى مستوى ما يعيشه الشارع من اختناق اجتماعي واقتصادي.
ففي ظل الغلاء الفاحش الذي أصبح العنوان الأبرز لحياة الأسر المغربية، وتوسع دائرة البطالة، وتآكل القدرة الشرائية، يصعب تصديق أن منصة إلكترونية، أو استمارة رقمية، قادرة على استيعاب حجم الإحباط والغضب الشعبي المتنامي، لأن المبادرة التي رُوّج لها كجسر تواصل، لم تلقَ التفاعل المنتظر، بل على العكس قُوبلت بانتقادات واسعة وسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ اعتبرها البعض جزءًا من مسلسل “التواصل للفرجة”، الذي يعتمد على حملات دعائية لا تلامس عمق الأزمات البنيوية.
المفارقة أن المواطن المغربي لا يحتاج إلى منبر رقمي ليُسمع صوته. لأن “الإنصات”، كما يفهمه المغاربة، لا يكون خلف الشاشات ولا عبر ملء خانات افتراضية، بل في الميدان، وسط الأسواق، وفي الطوابير أمام المستشفيات، وفي المدارس التي تعاني من الخصاص، وفي وسائل النقل التي تحولت إلى شاهد يومي على حجم المعاناة.
اليوم تساؤلات كثيرة تطرح نفسها وبإلحاح كبير، كيف لحزب يقود الحكومة، ويتحكم في القرار السياسي والمالي، أن يكتفي بدور المستمع؟ وأي جدوى لإنصات لا يتبعه فعل، ولا تصحبه إجراءات ملموسة لتحسين الأوضاع؟
وبالتالي متى سيعي قادة هذا الحزب أن الإنصات الحقيقي يبدأ بالاعتراف بوجود أزمة ثقة، أزمة ناتجة عن وعود انتخابية لم تجد طريقها إلى التنفيذ، وعن غياب المقاربة التشاركية، وسيادة منطق التبرير بدل التحمل الفعلي للمسؤولية.
فما ينتظره الشارع المغربي ليس مبادرات رقمية، بل سياسات عمومية ذات أثر مباشر، قادرة على وقف نزيف الأسعار، وخلق فرص الشغل، وإعادة الاعتبار للخدمات العمومية. وأن المواطن البسيط لم يعد يعوّل على الشعارات، بل على قرارات واضحة تُعيد رسم العلاقة بين الدولة ومواطنيها على أساس المحاسبة والإنجاز.
وسيبقى كل المبادرات في غياب ذلك، من قبيل “إنصات” حبيسة الفضاء الرقمي، تتغذى على الترويج، وتُقابل على الأرض بلا مبالاة تتسع كل يوم.
فهل يحتاج المواطن لمن يُدوّن معاناته في قاعدة بيانات حزبية؟ أم لمن يُخرجها من يومياته عبر إصلاح ملموس؟ لماذا لا يبدأ “الإنصات” من داخل الحكومة نفسها، حيث تصدر القرارات التي تُنهك الناس، وتُبرّر السياسات التي تُعمّق الفوارق؟
الأهم من كل ذلك، هل “الإنصات” مجرد واجهة لامتصاص الغضب، أم اعتراف ضمني بأن الشارع لم يعد يثق، وأن السلطة اختارت الاستماع الافتراضي، لأن الواقع أصبح لا يُطاق؟