
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

كلما اقتربت الاستحقاقات الانتخابية، عادت ظاهرة “التزكيات العائلية” لتطفو على السطح، كوجه قبيح يفضح عمق الأزمة داخل عدد من الأحزاب السياسية. وبالتالي بدل أن تتحول لحظة الترشيح إلى مناسبة لتكريم المناضلين الميدانيين وتجديد النخب، نراها تختزل في سباق محموم لتوزيع المقاعد بين الأبناء والأصهار والمقربين والعشيقات.
هذا السلوك لا يسيء فقط إلى صورة الأحزاب، بل يقوض فكرة العمل السياسي من أساسها، إذ كيف يمكن لمواطن بسيط أن يثق في أحزاب تقدم نفسها كحاملة لمشروع ديمقراطي، بينما هي عاجزة عن إعمال قواعد الديمقراطية في بيتها الداخلي؟
الأخطر من ذلك أن هذا “التوريث الحزبي” يفتح الباب أمام موجة جديدة من العزوف الانتخابي، ويغذي شعورا عاما بأن السياسة لم تعد وسيلة للتغيير، بل مجالا مغلقا لتقاسم النفوذ بين العائلات والمصالح. وهنا يكمن الخطر الأكبر الذي يتجلى في انقطاع الجسور بين المجتمع والفاعل السياسي، في ظرفية تحتاج فيها البلاد إلى ضخ دماء جديدة قادرة على تمثيل هموم الناس وصوت الشارع.
في العمق، لا يتعلق الأمر فقط بصراع حول مقاعد انتخابية، بل بأزمة ثقة تضرب في الصميم صورة الحياة الحزبية. فحين يتغلب منطق القرابة على منطق الكفاءة، وحين تدار لوائح الترشيحات بعقلية “الإرث العائلي”، فإن الرسالة التي تصل إلى الرأي العام هي أن الأحزاب لم تستوعب بعد معنى الديمقراطية الداخلية، ولا أهمية تجديد النخب في تعزيز مصداقيتها أمام المواطنين.
الأخطر أن هذه السلوكيات تغذي موجة العزوف الانتخابي التي باتت هاجسا دائما في كل محطة انتخابية. فالمواطن الذي يراقب المشهد من الخارج، سرعان ما يطرح السؤال البسيط: إذا كانت المقاعد محجوزة سلفا للعائلات والدوائر الضيقة، فما جدوى المشاركة؟ وهنا يكمن الخطر أيضا في تحول العملية الانتخابية إلى طقس شكلي يفتقر إلى الحيوية، بدل أن تكون لحظة فعلية لتجديد الثقة بين المجتمع ومؤسساته التمثيلية.
المطلوب اليوم يتجاوز مجرد معالجة تقنية لمسألة التزكيات على اعتبار أن التحدي الحقيقي أمام الأحزاب هو إعادة بناء ثقافة سياسية جديدة تجعل من الاستحقاق الانتخابي فرصة لفتح الأبواب أمام الطاقات الشابة والكفاءات الحقيقية. فلا ديمقراطية بدون ديمقراطية داخلية، ولا تمثيلية حقيقية دون احترام معيار النضال والجدية.
وإذا كانت بعض الأحزاب تبرر خياراتها باعتبارات “الاستمرارية” أو “الحفاظ على التوازنات”، فإن هذه التبريرات لم تعد تقنع أحدا، لأن المجتمع المغربي يعيش تحولات عميقة، وشبابه يطالب بتمثيلية تليق بانتظاراته، لا إعادة تدوير نفس الوجوه التي ارتبطت بممارسات أضعفت الثقة في السياسة.
إن استحقاقات 2026 لن تكون مجرد امتحان لتوزيع المقاعد بين الأحزاب، بل ستكون اختبارا حقيقيا لمصداقية الحياة السياسية برمتها، وبالتالي إما أن تختار الأحزاب طريق الإصلاح وتجديد نفسها من الداخل، وإما أن تستمر في نهج التوريث، بما يحمله ذلك من مخاطر على علاقة المواطن بالسياسة، وربما على المستقبل الديمقراطي للبلاد.
وختى وإن كانت الانتخابات المقبلة محطة لاختبار ثقة الناخبين، فإن أول اختبار حقيقي يواجه الأحزاب حول ما إن كانت تملك الشجاعة لتجديد نفسها من الداخل، أم ستواصل إعادة إنتاج نفس الوجوه بنفس الأساليب، مع ما يترتب عن ذلك من مزيد من فقدان المصداقية؟