
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

في مشهد يصعب على العقل استيعابه، خرجت الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين ببلاغ يحمل نبرة شديدة اللهجة، مشحون بالتحذيرات والاتهامات الموجهة لقطاع الإعلام بالمغرب، وكأنها تملك وحدها حق تحديد معايير الصحافة ومن يحق له ممارسة المهنة. غير أن ما يفترض أن يكون تشخيصًا دقيقًا للمشاكل التي يعاني منها القطاع، تحول إلى خطاب متشنج يثير السخرية أكثر مما يعكس نية حقيقية للإصلاح. خطاب تغلب عليه نبرة التباكي والتحريض، في محاولة يائسة لإعادة عقارب الساعة الى الوراء، وكأننا أمام عملية تسليم مفاتيح الإعلام إلى فئة معينة، تغلق أبواب المنافسة الحرة وتعزل الرأي الآخر.
فالجمعية التي يقودها من صنع مجده على أنقاض صحافة الفضائح والتفاهة تحاول اليوم أن ترتدي عباءة الوصي على المهنة، وهنا تكمن المفارقة العجيبة ويلوح السؤال الجوهري، كيف لمن ساهم في إفساد المشهد الإعلامي، وروّج للابتذال، أن يقدم نفسه اليوم كمدافع عن المهنية والأخلاقيات”. ليتضح جليا أن الأمر لا يتعلق بإصلاح أو تصحيح المسار، بل بمناورة مكشوفة هدفها تكريس وضع يخدم مصالح فئة محدودة، تستأثر بالدعم العمومي وتفرض وصايتها على قطاع كان من المفترض أن يكون مستقلا وحرا.
بلاغ الجمعية، الذي حاول التسلل إلى عقول المتابعين بلغة مليئة بالتخويف والتحذير، يتحدث عن “خطر منصات التواصل الاجتماعي” و”صناعة المحتوى”، وكأن هذه المنصات مجرد تهديد يجب التصدي له، في حين أن الواقع مختلف تمامًا، على اعتبار أن المشكلة الحقيقية ليست في هذه المنصات، بل في إعلام تقليدي فقد مكانته بسبب غياب التجديد وهيمنة عقلية الاحتكار، لدرجة لم يعد قادرًا على مجاراة فضاء مفتوح يمنح للجميع حق الوصول والتأثير. وبالتالي بدل أن تواجه الجمعية هذا الفشل وتعالجه بطرح بدائل حقيقية، اختارت أسهل الحلول وهي شيطنة المنصات الرقمية وتحميلها مسؤولية تراجع الإعلام التقليدي. وهو ما يحعلنا نجزم أن البلاغ لا يعدو أن يكون محاولة يائسة لوقف تيار لا يمكن إيقافه، متجاهلًا أن الإعلام اليوم ليس كما كان بالأمس، وأن الجمهور أصبح أكثر وعيًا وقدرة على التأثير من خلال منصات جديدة باتت توفر حرية التعبير بشكل غير محدود.
الأمر الأكثر إيلامًا في هذا البلاغ ليس فقط توجيه أصابع الاتهام إلى منصات اليوتيوب و”عصابات الإنترنت”، بل أيضًا تبني خطاب متشنج يحاول تحميلها وزر أزمة الإعلام. والمفارقة أن الصحافة التقليدية، التي يفترض أن تكون الحارس الأول للمهنة، هي نفسها من ساهم في تراجع مصداقيتها، بعدما استبدلت القضايا الجوهرية بمحتوى سطحي يلهث وراء الفضائح. فالأزمة لم تأتِ من الخارج، بل نشأت من داخل القطاع نفسه، حينما تفشى الاسترزاق الإعلامي، وتحولت بعض المنابر إلى أدوات في يد أصحاب المصالح. لذلك، فإن هذا البلاغ لا يعكس رغبة صادقة في الإصلاح، بقدر ما يكشف عن مناورة مكشوفة لضمان استمرار الهيمنة على المشهد الإعلامي، والاحتفاظ بنصيب الأسد من الدعم العمومي، مع إقصاء أي منافسة حقيقية تهدد هذا النفوذ.
فالجمعية، التي ترفع شعارات التنظيم والمسؤولية، ليست سوى أداة لتمرير أجندة سلطوية تهدف إلى تهميش كل صوت لا يتماشى مع مصالحها أو المصالح الجهة الداعمة لها. فبدلًا من الدفاع عن تعددية الإعلام، تسعى إلى فرض وصاية على المشهد الصحفي، وكأنها تملك حق تحديد من يستحق الحديث ومن يجب أن يصمت. فهي لا تريد إعلامًا يعكس تنوع المجتمع، بل إعلامًا مفصلًا على مقاس أعضائها، ويخدم أجنداتهم الخاصة تحت غطاء “التنظيم والتقنين”، في محاولة يائسة للالتفاف على حرية الرأي والتعبير.
الغريب في الأمر أن هذه الجمعية، التي تدّعي اليوم الدفاع عن المهنة، كانت أول من ساهم في إغراقها في مستنقع الرداءة. فأين كان هذا الحماس حين تحولت الصحافة إلى سوق مفتوح للابتزاز؟ أين كانت هذه الغيرة حين صارت بعض المنابر المنضوية تحت لوائها تقتات على الفضائح، وتغذي ثقافة التفاهة؟ فجأة، تتقمص دور المدافع عن القيم المهنية، بينما بعض أعضائها أصل الداء. والحقيقية أن المشهد الإعلامي لم يصل إلى هذا الوضع من تلقاء نفسه، بل بسبب عقليات هي نفسها التي تحاول اليوم فرض الوصاية عليه. وعليه فإن كان هناك حديث عن الإصلاح، فليبدأوا بأنفسهم أولًا، بدل تسويق خطاب لا يحمل سوى رائحة الخوف من فقدان السيطرة.
المثير أن الجمعية لم تكتفي بمحاولة فرض وصايتها على الإعلام، بل ذهبت أبعد من ذلك حين نصّبت نفسها مدافعًا عن المجلس الوطني للصحافة، الذي فقد شرعيته منذ مدة. بعد كل هذا التباكي على المهنة، هل من المنطقي أن تتغاضى الجمعية عن حقيقة أن هذه الهيئة لم تُجدد وفق القواعد الديمقراطية؟ دفاعها المستميت عن مجلس منتهي الصلاحية، وتبنيها لخطاب اللجنة المؤقتة، ليس سوى امتداد لمحاولات فرض السيطرة على القطاع. كيف يمكن أن تدّعي هذه الجمعية حرصها على مستقبل الصحافة، بينما تصطف إلى جانب لجنة جاءت فقط لتسيير الفراغ، لا لإصلاح المهنة؟ الحقيقة أن الأمر ليس سوى حلقة أخرى في مسلسل التواطؤ، حيث يتم التلاعب بالمؤسسات لضمان استمرار مصالح نخبة ضيقة، اعتادت التحكم في المشهد الإعلامي دون حسيب أو رقيب.
لم تكتفِ الجمعية بمحاولة فرض وصايتها على الإعلام، بل سعت أيضًا إلى تبييض وجه مجلس فقد شرعيته، متجاهلة أن أزمته ليست سوى انعكاس لمنظومة أكبر ترفض التغيير، وبالتالي فهي لا تدافع عن الصحافة، بل عن امتيازات مهددة بالزوال. وهنا نطرح السؤال، بعد كل هذا التباكي على المهنة، هل من المنطقي أن تتغاضى الجمعية عن حقيقة أن هذه الهيئة لم تُجدد وفق القواعد الديمقراطية؟ فدفاعها المستميت عن مجلس منتهي الصلاحية، وتبنيها لخطاب اللجنة المؤقتة، ليس سوى امتداد لمحاولات فرض السيطرة على القطاع. وبالتالي كيف يمكن أن تدّعي هذه الجمعية حرصها على مستقبل الصحافة، بينما تصطف إلى جانب لجنة جاءت فقط لتسيير الفراغ، لا لإصلاح المهنة؟ الحقيقة أن الأمر ليس سوى حلقة أخرى في مسلسل التواطؤ، حيث يتم التلاعب بالمؤسسات لضمان استمرار مصالح نخبة ضيقة، اعتادت التحكم في المشهد الإعلامي دون حسيب أو رقيب.
بعد كل هذا التضليل والتحايل الذي سعت الجمعية لتمريره عبر بلاغها، لا يمكننا إلا أن نواجه حقيقة واحدة، وهي أنه لا يمكن أن تكون هذه الجمعية هي الحامي الحقيقي للصحافة. وبالتالي، كيف يمكن لمن يروج لهيمنة السلطة على الإعلام أن يدافع عن استقلاليته؟ كيف يمكن لمن سعى طوال سنوات لاحتكار المهنة وتقسيم “كعكة الدعم” أن يعلن اليوم عن نفسه كمدافع عن حرية الصحافة؟ فإذا كانت الجمعية فعلاً تمتلك القدرة على معالجة أزمة الإعلام، فلتبدأ أولاً بمحاسبة نفسها على تقاعسها المستمر قبل أن تدعي الدفاع عن الصحافة. وبدلاً من محاولة التنصل من مسؤولياتها وتوجيه اللوم إلى الآخرين، يجب أن تتحمل مسؤولية تدمير مصداقية المهنة التي أسهمت في تدهورها بطرق عدة. وعليها أن تعي جيدا أن الصحافة الحرة لا تكون أداة لمن لا يتقن سوى لعبة الفساد، ولا يمكن أن يكون لها مكان في معركة القيم والمبادئ إلا إذا عادت إلى جوهرها في أن تكون رسالة نبيلة تنقل صوت الحقيقة، بعيدًا عن مصالح السلطة وأهواء المتنفذين.