
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

منذ أن جلس على كرسي وزارة العدل في حكومة أخنوش، لم يتوقف عبد اللطيف وهبي عن إثارة الجدل، سواء بتصريحاته المتعالية أو بانفعالاته التي جرّت عليه خصومات سياسية بالجملة. وبالتالي لم يكن مستغربًا أن يتحول إلى هدف لسهام النقد، ليس فقط من خصومه، بل حتى من داخل بيته الحزبي. واليوم، وقد بدأت ملامح نهاية مساره الوزاري تلوح في الأفق، يطل وهبي بتصريح يوحي بأنه كان مجرد ضحية لمخطط سياسي، وأن تعيينه وزيرًا لم يكن إلا خطوة محسوبة من جهات أرادت تصفيته سياسيًا أو دفعه نحو الفشل.
في خرجاته الأخيرة، لمّح وهبي إلى كونه مجرد ضحية تم الدفع بها إلى واجهة مشهد سياسي ملغوم، وكأن تعيينه في الحكومة لم يكن سوى فخ نُصب له بعناية. هذا الخطاب، وإن بدا اعترافًا ضمنيًا بثقل الضغوط التي عاشها، لا يخلو من محاولة التملص من المسؤولية المباشرة عن المسار المتعثر الذي سار فيه. فالرجل لم يُقحم قسرًا في بحر السياسة، بل خاضه بإرادته، وبأسلوب طبعه التهور والانفعال، حتى بات عنوانًا للتوتر داخل المؤسسة الحكومية. ومن ثَم، فإن اختباؤه خلف نظرية المؤامرة لا يُقنع أحدًا، بقدر ما يُجسد مأساة سياسي أصرّ على أن يكون مركز الجدل، ثم استغرب أن يكون أول ضحاياه.
فتاريخ عبد اللطيف وهبي السياسي يظهر بوضوح أنه كان دائمًا يندفع في تصريحاته، وكأنها قنابل موقوتة تنفجر في وجهه دون حساب للعواقب المترتبة عنها. فخرجاته المتكررة، التي يطبعها التحدي والغرور، جعلت منه هدفًا سهلًا للخصوم الذين استغلوا هذه المواقف ضد مصالحه. ورغم محاولاته الأخيرة لتبرير نفسه وتقديم نفسه كضحية، إلا أن الواقع يفرض نفسه بقوة، حيث أن جزءًا كبيرًا من تراجعه السياسي يعود إلى سلوكه وانفعالاته المفرطة التي ساهمت في وقوعه في هذا المأزق.
ما يثير الدهشة في تصريحات عبد اللطيف وهبي الأخيرة هو محاولته تصوير نفسه كبطل مظلوم في لعبة سياسية خفية، رغم أن الواقع يختلف تمامًا. فهو لم يكتفِ فقط بسرد وقائع ما جرى، بل عمد إلى تسويق نفسه كضحية لمخططات مجهولة تهدف إلى النيل منه، متناسيًا أن الجزء الأكبر من مشكلته هو أسلوبه الشخصي في التعامل مع خصومه والمواقف الصعبة. فكل سياسي، في أي مكان في العالم، يتعرض للهجوم والانتقاد، لكن ما يميز وهبي عن غيره هو اختياره الدائم لمنهج التصعيد والعنف اللفظي بدلًا من التروي والتفكير العقلاني. في كثير من المرات، كان يظهر بمواقف تنم عن عجرفة وتحدٍّ، ما جعله يُواجه خصومه بنزعة تصادمية جعلت من الصعب عليه كسب تحالفات أو الحفاظ على وحدة صفه السياسي. هذا الأسلوب المتهور دفع به إلى صراع مع الجميع: حلفائه قبل خصومه، وهو ما نتج عنه تعميق الانقسامات داخل المشهد السياسي بدلًا من أن يساهم في لمِّ شمل القوى السياسية. لا عجب أن يشعر وهبي اليوم بالسخط على الوضع الذي وصل إليه، لكن عليه أن يتحمل المسؤولية الكبرى في هذا التراجع، لأنه كان هو من أسهم في تشكيل هذا المسار وتكريس هذه الأزمات بحسابات خاطئة.
فالحكمة السياسية تتمثل في القدرة على التحكم في الانفعالات وتجنب التصعيد الكلامي الذي قد يحطم ما بنته سنوات من العمل السياسي. وهذا بالضبط ما افتقر إليه عبد اللطيف وهبي، الذي كان دائمًا يتجاوز الخطوط الحمراء بكلامه القوي والمتشنج، وكأنه لم يعِ أن في السياسة ليس كل كلام يصدر هو من قبيل الحسم أو القوة، بل قد يكون سلاحًا ذو حدين يوجه ضرباته إلى صاحبها أولًا. هذا المآل الذي عاشه وهبي ليس منفردًا في حالته، بل هو واقع يعكس طبيعة العديد من السياسيين الذين ينساقون وراء غرورهم وينحرفون عن مسار الحكمة المطلوبة في مثل هذه المواقع. فالتفاعل مع السياسة يتطلب الكثير من التعقل والصبر، بعيدًا عن الاستفزازات والتصرفات التي قد تؤدي إلى تشويه الصورة وإضعاف التأثير، وهو ما جعله اليوم في موقف يعكس تراكم أخطائه التي دفع ثمنها في مسار سياسي كان بإمكانه أن يكون مختلفًا، لو أنه تبنى سلوكًا أكثر هدوءًا وحكمة في التعاطي مع التحديات.
إن تصعيد التوترات واستفزاز خصومه السياسيين لم يضعفه فقط، بل حوله إلى مادة خصبة للهجوم في ظل غياب الرؤية الدقيقة للعبة السياسية ومقتضياتها. عبد اللطيف وهبي، مثال حي على كيفية أن الانفعال السياسي والعنجهيّة يمكن أن تقود صاحبها إلى هاوية لا مفر منها. فالواقع أن هذا المسار المأساوي ليس فريدًا في حالة وهبي، بل هو سيناريو مكرر في تاريخ العديد من السياسيين الذين، بسوء تقديرهم وتهورهم، وضعوا أنفسهم في دائرة الفشل.
وخير مثلًا على ذلك، نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي الأسبق، الذي جرفه غروره وتحديه الدائم لخصومه، فكان سقوطه في انتخابات 2012 نتيجة طبيعية لتصريحاته المتسرعة والتي كانت تدفعه إلى مواجهة الجميع. وعلى نفس المنوال، كان جورج بوش الابن، الذي قرر الدخول في مغامرة غزو العراق دون أن يحسب العواقب، ليصبح هذا القرار واحدًا من أكبر العوامل التي أسهمت في فقدانه الدعم المحلي والعالمي، ويغرق بالتالي في خيبة سياسية كبيرة تذكره بها الأجيال. ولعل الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) هو أيضًا نموذج آخر، حيث أساء اتخاذ مواقف سياسية حاسمة تفتقر إلى الاستراتيجيات المدروسة، مما جعله موضع تساؤل وانتقاد دائم.