في زمن أصبحت فيه حرية التعبير مرادفاً للمجازفة، يعود النقاش حول الإعلام ودوره ليتصدر المشهد، ليس من بوابة الإنجازات المهنية أو النقاشات الفكرية، بل من بوابة الاستهداف والمتابعات. الإعلام اليوم، أو بالأحرى ما تبقى منه، يقف عند مفترق طرق، حيث تتقاطع الضغوط مع الصمت، والمبدأ مع المصالح.
وعندما يصبح صوت الصحفي سيفاً مسلطاً عليه، تبرز أزمة القطاع في أبهى تجلياتها، ومعها يقوم السؤال، هل ما نراه اليوم مجرد حالة عابرة أم انعكاس لتحولات أعمق تهدد مصير حرية الصحافة؟
فاستدعاء الصحفي حميد المهداوي اليوم من طرف ضباط الشرطة القضائية بالرباط، بناءً على شكاية من رئيس الحكومة عزيز أخنوش ووزير العدل عبد اللطيف وهبي، ليس مجرد واقعة منعزلة، بل هو امتداد لوضعية بات فيها الإعلام المغربي أسيرَ معادلاتٍ جديدة، تختلط فيها السلطة بالنفوذ، وتنزوي فيها حرية التعبير أمام أسئلة محيرة عن مستقبل الصحافة ببلادنا، وانعكاس لحجم التراجع الذي طال المبادئ الأساسية لهذه المهنة النبيلة، وكيف أضحت المساءلة القانونية سيفاً مُسلطاً على أقلام لا تنحني، فيما يتوارى صوت الزملاء في صمت مُطبق لا يقل خطورة عن أي تهديد خارجي.
ما يحدث مع المهداوي يثير التساؤل حول ظاهرة غياب التضامن المهني بين الصحفيين أنفسهم. ففي الوقت الذي يحتاج الجسم الصحفي إلى التكاتف للدفاع عن حرية التعبير واستقلالية الصحافة، يسود صمت مطبق، هذا الصمت يعكس مدى الانهيار الأخلاقي والمؤسساتي الذي أصاب القطاع، حيث تغيب ردود الفعل من الجهات المفترض أنها تمثل الصحفيين وتدافع عن مصالحهم.
المثير للاستغراب أن الصحفيين الذين يتحدثون صباح مساء عن قيم العدالة والإنصاف يقفون اليوم متفرجين على زميل لهم في مهنة المتاعب، وهو يواجه ملاحقة قضائية بسبب آرائه أو كتاباته الأمر لا يتعلق بحالة فردية بل بمنظومة كاملة أصبحت رهينة للحسابات السياسية والمصالح الضيقة مما أدى إلى تراجع دور الصحافة كسلطة رابعة وكمصدر للرقابة والمساءلة.
تداعيات الصمت المهني واضحة، حيث يُعزز مناخ القمع الذي يعيشه الصحفيون، ما يجعل حرية التعبير تقتصر على القلة القليلة. لهذا، باتت وسائل الإعلام بعيدة عن مهمتها الأساسية في الرقابة والمحاسبة، مع تراجع استقلاليتها أمام الضغوط السياسية والاقتصادية. وهو ما يضعف من قدرة الصحافة على خدمة الجمهور ونقل الحقيقة، بينما يتضاءل دورها في الدفاع عن المصلحة العامة، حيث أصبحت تتماهى مع المصالح الضيقة بدلاً من المضي نحو قيم النزاهة والشفافية.
ما يثير الحزن أكثر أن هذا الوضع ليس استثناءً في المغرب فقط، بل هو امتداد لحالة عامة تعيشها الصحافة العربية في كثير من الدول، حيث أضحت المهنة ساحة لتصفية الحسابات أو أداة في يد السلطة لفرض رواية أحادية، إلا أنه في المغرب يبدو هذا الانحدار أكثر وضوحاً بسبب ضعف التنظيمات المهنية وتشرذم الجسم الصحفي، فضلاً عن خضوع بعض الأصوات لما يمكن وصفه بـ”رقابة ذاتية” خوفاً من تبعات المواجهة، وهو ما يعزز مناخ القمع الذي يعاني منه الصحفيون، ويجعل حرية التعبير تقتصر على القلة القليلة، فوسائل الإعلام اليوم باتت بعيدة عن مهمتها الأساسية في الرقابة والمحاسبة، في الوقت الذي يتراجع استقلالها أمام الضغوط السياسية والاقتصادية.
القضية ليست قضية المهداوي وحده، بل قضية كل صحفي اختار أن يكون صوتاً للمواطنين بدلاً من أن يكون أداة لإعادة إنتاج الخطاب الرسمي، وإذا كان المهداوي اليوم هو المستهدف، فمن يضمن أن لا يأتي الدور غداً على زميل آخر؟ لأن حرية التعبير ليست امتيازاً يمنح، بل هي حق أصيل يجب الدفاع عنه مهما كانت الظروف. وهذا يتماشى مع ما سبق طرحه حول تزايد مناخ القمع وانتهاك حرية الصحافة، وما بات يواجهه الصحفيون من تراجع في استقلاليتهم وتزايد في الضغوط السياسية والاقتصادية، أدى إلى إضعاف قدرتهم على أداء مهمتهم الرقابية بشكل حر وفعال.
الرسالة التي يجب أن تُوجه من خلال واقعة المهداوي هي أن الجسم الصحفي مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بإعادة النظر في موقعه ودوره، فالصمت ليس خياراً، والتخاذل في الدفاع عن زملاء المهنة لا يؤدي إلا إلى إضعاف الجميع، على اعتبار أن حرية الصحافة ليست مسألة تخص الصحفيين فقط، بل هي حق أصيل للجميع، والرأي العام أيضاً عليه أن يدرك أن التضييق على الصحافة ليس مسألة تخص الصحفيين وحدهم، بل هو تقييد لصوت المجتمع كله، وهو ما يضعف من قدرة الأفراد على الوصول إلى المعلومة وحماية حقوقهم في التعبير والمساءلة.
ما حدث مع المهداوي يعكس واقعاً متزايداً من التحديات التي تواجه حرية الصحافة في سياق معقد يتطلب تضافر الجهود لحمايتها. فالحرية، كقيمة أساسية، تتطلب وعياً مستمراً وثباتاً في الدفاع عنها، دون التجاوز أو المساومة. وبالتالي من واجب الجميع أن يدركوا أن حماية الصحافة المستقلة ليست مسؤولية الصحفيين وحدهم، بل تتطلب مشاركة فعالة من المجتمع بأكمله، لضمان أن تبقى الحقيقة حاضرة دون تهديد أو محاولات للتلاعب بها.