
الدكتور عادل بن حمزة

في خضم التحولات الجيوسياسية التي تعرفها منطقة الساحل والصحراء، وفي ظل سياق إقليمي مضطرب، برز استقبال العاهل المغربي الملك محمد السادس بداية هذا الأسبوع لوزراء خارجية دول تحالف الساحل الثلاث—عبد الله ديوب (مالي)، كاراموكو جون ماري تراوري (بوركينافاسو)، وباكاري ياوو سانغاري (النيجر)—كحدث دبلوماسي استثنائي في المنطقة يحمل دلالات استراتيجية عميقة، تؤكد على انخراط المغرب الفعلي في إعادة رسم ملامح التوازنات والنفوذ في غرب إفريقيا، في ظل تراجع الأدوار التقليدية لبعض القوى الإقليمية والدولية.
لم يخفِ المغرب دعمه الثابت لهذه الدول، خصوصًا في ظل الظروف الانتقالية التي تمر بها، حيث أكد وزراؤها بعد لقاء العاهل المغربي امتنانهم للمملكة على دعمها المتواصل، وعلى المبادرة الملكية لربطها بالمحيط الأطلسي، وكان الملك محمد السادس قد أعلن عن هذه المبادرة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بمناسبة الذكرى الـ48 للمسيرة الخضراء، وتشكل المبادرة متنفساً اقتصادياً واستراتيجياً حيوياً لدول حبيسة، وجوابا تنمويا على حالة أمنية وسياسية غير مستقرة، في الوقت نفسه، بذل المغرب جهوداً دبلوماسية ملحوظة للدفاع عن حق هذه الدول في التمثيل داخل الاتحاد الإفريقي، بعدما تم استبعادها من التصويت خلال قمته الأخيرة، إلى جانب السودان. وقد شددت الرباط، على ضرورة مواكبة هذه البلدان لا عزلها، باعتبار أن إقصاءها يُضعف التضامن الإفريقي ويقوّض الاستقرار الإقليمي.
هذا التوجه المغربي يأتي في لحظة مفصلية تشهد فيها المنطقة تراجعًا للنفوذ الفرنسي وتوترا في العلاقات بين دول الساحل والجزائر، خاصة بعد التحولات العسكرية والسياسية التي أطاحت بأنظمة كانت موالية للجزائر. هذه الأخيرة، التي طالما قدمت نفسها كوسيط إقليمي، تجد نفسها اليوم على هامش التحولات، بينما تتحرك الرباط بثبات، مستفيدة من سياسة خارجية مرنة، وعلاقات تاريخية متجذرة مع المجتمعات الإفريقية على المستويات الدينية والثقافية والاقتصادية، فبعد التوتر العسكري مع مالي، شهدت العلاقات الجزائرية بدول الساحل تصعيدا كبيرا تمثل في استدعاء الدول الثلاث في خطوة موحدة، لسفرائها من الجزائر، وهو ما يدل على أن العلاقات بين الطرفين وصلت مرحلة القطيعة، بل إن تقارير إعلامية أشارت إلى الصعوبات التي يواجهها مشروع خط الغاز النيجيري الجزائري الذي يعبر النيجر، في مقابل ذلك تزدهر علاقات الدول الثلاث بالمغرب َذلك منذ سنوات.
الرهان المغربي على دول الساحل لا يقتصر على الحضور الرمزي، بل يتجسد في مشاريع ملموسة، أبرزها ميناء الداخلة الأطلسي، الذي يُنتظر أن يشكل جسرًا اقتصادياً وسياسياً بين المغرب ودول الساحل مضاف إليها موريتانيا. هذا المشروع لا يحمل فقط بعدًا لوجستياً، بل يعبّر عن تصور متكامل لتحالف عابر للصحراء، يتجاوز الإكراهات الجغرافية والسياسية، ويؤسس لتعاون إفريقي-إفريقي يقوم على المصالح المشتركة، لا على الوصاية أو التدخل.
من زاوية أخرى، تقدم المبادرة المغربية بديلاً تنموياً لدول الساحل، بعيداً عن المحاور الدولية التي تتصارع على المنطقة من خلال أدوات النفوذ العسكري والاقتصادي. فالمغرب يعرض شراكة تقوم على المنفعة المتبادلة، وتركز على التنمية، والبنية التحتية، والانفتاح على الأسواق، دون شروط سياسية أو تدخلات في السيادة الوطنية من خلال وصاية مرفوضة من النخب الجديدة التي تحكم البلدان الثلاثة. هذا النموذج يلقى ترحيباً من دول تعاني من التهميش الجغرافي والاقتصادي، وتبحث عن شركاء يحترمون استقلال قرارها.
رسالة المغرب من خلال هذا التحرك واضحة وهي أنه لا يوجد في موقع المراقب، بل هو فاعل رئيسي ومبادر يقترح الحلول ويدعم الاستقرار بوسائل غير تقليدية منطلقة من تقاسم الهوية الإفريقية بالاستناد على إرث حضاري وثقافي مشترك. نجاح هذه الرؤية سيعتمد على قدرتها على الاستمرار والفعالية، وعلى مدى قدرتها على تحصين الشراكات من التقلبات السياسية الإقليمية والدولية.
في النهاية، يؤكد الاستقبال الملكي لوزراء خارجية دول الساحل أن الرباط تتقدم بثقة نحو لعب دور بنيوي في غرب إفريقيا، مستندة إلى مشروع متكامل يربط التنمية بالسيادة، ويؤمن بأن بناء إفريقيا قوية لا يتحقق إلا من خلال التضامن، وفتح الآفاق الاقتصادية، وتكريس منطق الشراكة، لا التبعية أو العزلة.