
بقلم : الصحافي أمين بوشعيب/ إيطاليا

كنتُ ولا أزال من أشدّ المعارضين الرافضين لأي تدخل فرنسي في شؤون المغرب الداخلية، وكتبـتُ في ذلك عدة مقالات تبيّن الأسباب الثاوية وراء موقفي ذاك. فأنا من الذين يعتبرون فرنسا دولة انتهازية، تتعامل مع المغرب كأنه مُستعمَرة أو ملحقة تابعة لها، وكلُّ ما يهمها هو استنزاف الموارد والثروات التي يزخر بها، وذلك من خلال عقود إذعان استثمارية. وكنتُ كلما كتبتُ مقالا أصرخ بكل ما أملك أنه لا بدّ نقول كفى! ونعلن خروجنا من جلباب فرنسا. وهو ما يسير عليه بخطى حثيثة منذ أن تولى الملك محمد السادس حكم المغرب.
لا أحد يجادل في أنّ زمن الوصاية والاستعمار قد ولّى، وأن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، لكن فرنسا ومعها بعض المغاربة ممن يُطلق عليهم ”أبناء ماما فرنسا” لا زالوا يحنّون إلى ماضي الاستعمار، ويروّجون أن المغرب بدون فرنسا لا يساوي شيئا، فهي التي تحميه وتدافع عنه في المحافل الدولية، ومنها يستمد قوته وأمنه، بل هناك من يرى أن العلاقة بين المغرب وفرنسا فاقت كل الأوصاف، وبلغت إلى حدّ وصفها بالعلاقة الحميمية، وهذا ما أكده سفير فرنسا للأمم المتحدة، جيرار آرو عندما قال في ذات تصريح أن المغرب بالنسبة إليهم بمثابة العشيقة التي يجامعونها كل ليلة، رغم أنهم ليسوا بالضرورة مغرمين بها، لكنهم ملزمون بالدفاع عنها.”
ما يجب أن يعرفه هؤلاء وعلى رأسهم هذا السفير قليل الحياء، أن مغرب اليوم لم يعد حبيساً لعلاقته التقليدية بفرنسا، بل يتجه نحو تنويع شركائه الاستراتيجيين مع الولايات المتحدة، الصين، روسيا، وإسبانيا. وبهذا التوجه عزّز موقعه التفاوضي مع باريس، ووضع الأخيرة أمام معادلة جديدة: إما القبول بعلاقة ندية متوازنة، أو فقدان امتيازات تاريخية في منطقة تعتبرها مجالاً حيوياً بالنسبة إليها.
لكن فرنسا لم تقبل بالعلاقة الندية المتوازنة، لذلك لا يمكن قراءة الحملات الإعلامية التي شنّتها الصحف الفرنسية ضد المغرب، بمعزل عن ذلك. فهي كانت تعتبر المغرب مجالًا لنفوذها السياسي والثقافي والاقتصادي، وتنظر بامتعاض شديد إلى استقلالية القرار المغربي، خصوصًا في عهد الملك محمد السادس الذي نسج علاقات استراتيجية جديدة مع الولايات المتحدة، روسيا، الصين، بل ومع إفريقيا بعمق غير مسبوق. هذا التحول يفسَّر في باريس على أنه خروج من “الوصاية الفرنسية”، وهو ما أثار حفيظة دوائر نافذة داخلها، فسخّروا الصحافة واستخدموها للابتزاز والضغط. حيث قامت بالهجوم على العائلة الملكية. الشيء الذي يؤكد أن عقلية “المستعمر” ما زالت تحكم سلوكها.
إن استهداف الصحافة الفرنسية للعائلة الملكية المغربية ليس صدفة، بل نتيجة تداخل عوامل منها الإرث الاستعماري، والحسابات الجيوسياسية، ومنطق السوق الإعلامية، وصراع المصالح. غير أن ما يغيب عن هذه الصحافة هو أن الملكية في المغرب ليست مجرد “حاكم” أو “أسرة”، بل هي العمود الفقري لوحدة أمة، وأي محاولة لضربها تتحول إلى رهان خاسر أمام التماسك الشعبي والتاريخي الذي يربط المغاربة بمؤسستهم الملكية.
إن ما تقوم به بعض المنابر الإعلامية الفرنسية من استهداف متكرر للعائلة الملكية المغربية، ليس سوى سلوك أرعن ينمّ عن حقد دفين وعن نزعة استعمارية بائدة. فبدل الانخراط في صحافة مسؤولة وموضوعية، اختارت هذه الأقلام المتسخة الارتماء في أوحال الكذب والافتراء، محاولة عبثا النيل من رمز وحدة المغاربة وضامن استقرارهم. المفارقة أن الصحافة الفرنسية نادرًا ما تتجرأ على تناول المؤسسة الملكية في بلدان الخليج مثل السعودية أو قطر بنفس الجرأة التي تمارسها تجاه المغرب، رغم أن تلك الملكيات أكثر انغلاقًا. وهذا يكشف عن انتقائية في المعايير، وربما حسابات سياسية واقتصادية بحتة.
إن هذه الحملات الرخيصة تكشف إفلاسًا أخلاقيًا قبل أن تكون “ممارسة صحفية”، وتُعرّي الوجه الحقيقي لصحافة مأجورة لا ترى في القيم سوى بضاعة للمتاجرة. وما تجهله تلك المنابر أن المغاربة يلتفون حول ملكهم، وأن كل إساءة موجهة إلى المؤسسة الملكية لن تزيدهم إلا تمسكًا بعرشهم ورفضًا لوصاية المستعمِر القديم. لذلك انتفضوا للتنديد بأشد العبارات بهذا السلوك المشين، واعتبروه طعنًا في أخلاق المهنة وفضيحة مدوية في سجل الإعلام الفرنسي، الذي ما فتئ يثبت يومًا بعد يوم أنه رهينة مصالح لوبيات يائسة فقدت نفوذها في المغرب المستقل.
والخلاصة، أن الموقف الشعبي المغربي بات واضحاً: لا للوصاية الفرنسية، لا للتدخل في شؤون المغرب، ولا لاحتقار مؤسساته. لقد انتهى زمن الاستعمار الناعم، وحان الوقت لبناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل. وفرنسا إن أرادت أن تبقى صديقة للمغرب، فعليها أن تنسى لغة الهيمنة وأن تعي أن المغرب اليوم قوة إقليمية صاعدة لا تقبل الانكسار.
فلاش: لم يكن الاستعمار الفرنسي مجرد مرحلة عابرة، بل مشروعاً عميقاً حاول تجريد المغاربة من لغتهم وهويتهم وثرواتهم. واليوم، تستمر باريس في استثمار ذلك الإرث عبر الاقتصاد والثقافة، متشبثة بفرض اللغة الفرنسية، وكأنها أداة استعباد ذهني واقتصادي لا غنى عنها. غير أن الوعي الشعبي يتنامى، وصوت الرفض يتعالى، ليكشف أن ما تريده فرنسا هو إبقاء المغرب رهينةً لماضيها الاستعماري.
والأكيد أن علاقة فرنسا بالمغرب لن تنقطع، لكنها لن تعود أيضاً إلى شكلها التقليدي السابق. فالمغرب الجديد، بمكانته الإفريقية المتنامية، وبسياسته الخارجية المتعددة الأقطاب، يفرض على باريس أن تعيد النظر في أدواتها القديمة. وهكذا، تظل العلاقة محكومة بلعبة المد والجزر، بين ضرورات التعاون وإكراهات الخلاف.