
الدكتور عادل بن حمزة

تُناقش الدراسة المُعنونة ب “الهوية وتشكيل الدولة في المجتمعات متعددة الطوائف: بين الوطنية والطائفية في سورية” للباحث المتخصص في الشأن السوري صاحب كتاب “Syria Revolution from above” “الثورة في سوريا من الأعلى” Raymond Hinnebousch، العلاقة بين الهوية وتشكيل الدولة في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المتعددة الطوائف، مع التركيز على الحالة السورية. تستعرض الدراسة كيفية تأثير مزيج الطائفية والوطنية على تشكيل مؤسسات الدولة، وتأثير هذه المؤسسات بدورها على هذا المزيج. تتوقف الدراسة عند نتائج التصدير المشوه لنظام الدولة “الويستفالي” إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الذي أفرز سياقا بنيويا يتميز بتعدد الهويات ووجود دول هجينة، حيث تتنافس وتتعايش الهويات الوطنية والطائفية معًا.
تُحلل الدراسة أيضا العوامل التي تفسر تنوع أنماط الهوية في المنطقة وتأثيرها المحتمل على تشكيل الدولة، وتستكشف تأثير تشكيل الدولة ومؤسساتها على التوازن بين الوطنية والطائفية. معتبرة أن الفشل الجزئي للدولة أدى إلى تعزيز الطائفية المتشددة الإقصائية على حساب الوطنية.
تبرز الدراسة أن السياسات الأكثر تعقيدًا وتغيرًا في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقع بين قطبي الوطنية والطائفية، وتُظهر أن فهم العلاقة المتبادلة بين الهوية وتشكيل الدولة يتطلب تحليلًا للسياق البنيوي والتاريخي لكل حالة على حدة، أي سياق تطور الدولة وسياق الهوية.
تُعتبر سوريا نموذجًا معقدًا للتعددية القومية والطائفية والعرقية في الشرق الأوسط، حيث تضم مكونات متنوعة تشمل السُنّة، الشيعة (الإثني عشرية، الإسماعيلية، العلويين)، الأكراد والدروز، والمسيحيين، بالإضافة إلى مجموعات أخرى أصغر من الناحية الديمغرافية. هذه الفسيفساء الاجتماعية، التي كانت مصدرًا لغنى ثقافي، أصبحت في ظل الصراعات المستمرة تحديًا كبيرًا لمفهوم الدولة الوطنية. في هذا السياق، يبرز مفهوم الوطنية الدستورية كإطار يمكن أن يساهم في بناء دولة حديثة في سوريا تحترم التنوع وتضمن حقوق جميع مكوناتها.
الثلاثاء الماضي (10 آذار/مارس) ، شهدت الساحة السورية تطورًا مهمًا ومفاجئا، تمثل في الاتفاق بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، والذي نص على دمج المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية في إطار الدولة السورية.
يشير مفهوم الوطنية الدستورية إلى الولاء للدستور والقيم الديمقراطية المشتركة، بدلاً من الولاءات العرقية أو الطائفية. في سياق دولة متعددة الهويات كالدولة السورية، يمكن لهذا المفهوم أن يكون الأساس لبناء دولة تحترم التنوع وتضمن حقوق جميع مواطنيها. من خلال تبني دستور يعكس القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، يعزز الانتماء الوطني المبني على المواطنة المتساوية، مما يقلل من التوترات بين المكونات المختلفة الذي ينتج عادة من اعتماد الوطنية التقليدية التي تستند على المشاعر والانتماء الثقافي أو العرقي سواء كان حقيقيا أو متوهما، لذلك فإن الوطنية الدستورية تمثل آلية، لتجاوز هذه البنية التقليدية المتقوقعة حول هوية منغلقة، إلى جعل المواطن في حالة التزام قانوني وأخلاقي بمؤسسات الدولة ومبادئها. ذلك أنه في النظم الديمقراطية الحديثة، يكون الولاء للدستور أقوى من الولاء للأفراد، مما يضمن استمرارية الدولة حتى عند تغيير الزعامات والحكومات.
الوطنية الدستورية ليست فرضية نظرية، بل هي تجربة تاريخية ناجحة يمكن الاسترشاد بها في الحالة السورية وفي غيرها من دول المنطقة التي تعاني من تعددية هوياتية وطائفية مفرطة (العراق، اليمن، لبنان…).
نستحضر هنا تجربة رائدة تتمثل في التجربة الألمانية، فبعد سقوط النظام النازي في عام 1945، واجهت ألمانيا صعوبات كبيرة في إعادة بناء هويتها الوطنية، حيث أصبح من الصعب التمسك بالمفاهيم التقليدية للوطنية التي صاغها النظام النازي والتي تمحورت حول سيادة العرق الآري الجرماني، والذي نتج عنها حرب عالمية مدمرة. في هذا السياق، ظهر مفهوم “الوطنية الدستورية” كبديل للوطنية القومية، وكان يورغن هابرماس من أبرز منظّريه. فهو يرى أن الوطنية لا يجب أن تكون قائمة على العرق أو القومية أو التاريخ المشترك، بل على التزام المواطنين بالمبادئ الدستورية الليبرالية والديمقراطية.
لذا يعتبر اتفاق 10 آذار/ مارس بين الشرع و عبدي خطوة يمكن أن إلى الوطنية الدستورية في سوريا، حيث يسعى إلى دمج المكونات المختلفة ضمن إطار الدولة، مع التأكيد على حقوقها وضمان تمثيلها العادل. بلاشك لن يكون الطريق مفروشا بالورود سواء لجهة الاختلافات والتناقضات الداخلية أم لجهة العامل الخارجي، من دون أن ننسى الإرث الاقتصادي التنموي المتعثر لتجربة البعث.