دكتور عادل بنحمزة/ المغرب
تعيش السلطة الجزائرية منذ سنوات اضطراباً خطيراً في تحديد الهوية الوطنية، بحيث أنّ النظام الحاكم في قصر المرادية، عوض أن يتقبّل حقائق التاريخ ويبني عليها، وهي على كل حال ليست نقيصة أو عيباً… نراه يسعى إلى لي عنق الحقائق التاريخية، ويتعسف في قراءة التاريخ، وبالنتيجة فإنّه أصبح عاجزاً عن النظر إلى المستقبل، الذي تؤكّد الوقائع في عالم اليوم، أنّه لا يمكن التوجّه إليه منفردين مثقلين بكميات كبيرة من الحقد.
الأمر لا يتعلق هنا ببعض ممثلي النظام الجزائري، بل إن من وضعه العسكر على رأس الدولة، كلما تحدث إلى الإعلام، كعادته، يُظهر بساطة شديدة ومعرفة لا تختلف كثيراً عن إدراك المواطن العادي، وهذا لا يستثني جنرالات الجيش الجزائري، الحاكم الفعلي، وجمهرة من قليلي الخبرة والكفاءة ممن يتحمّلون مسؤوليات عامة.
هل يتعلق الأمر بنَفَس شعبوي في الحكم؟ أعتقد أننا قريبون من ذلك، لكن ما هي الأسباب العميقة التي تجعل بنية نظام يعيش أزمة هوية ممتدة منذ الاستقلال؟ وهذه البنية تتأثر بغياب ثقافة الدولة وتقاليدها، وتنتج كل هذا العداء والتوجس من المغرب ومن باقي جيرانها. وكيف عوّضت النخبة الحاكمة هناك معركة بناء الدولة والالتفاف حول هوية جامعة، إلى مجرد دفاع مستميت وتعبئة للموارد، للحفاظ على بنية النظام القائم منذ الاستقلال، والعداء للمغرب من خلال الاستثمار في نرجسية جماعية أضحت حالةً مرضية مزمنة، وأظهرت بطولة كأس إفريقيا التي تحتضنها ساحل العاج بعضاً من مظاهرها المزمنة، بخاصة من بعض مَن يُسمّون بالمؤثرين الجزائريين على مواقع التواصل الاجتماعي.
إذا كانت النرجسية الفردية تتمحور حول حب الفرد لذاته، فإنّ النرجسية الجماعية هي نوع من أنواع النرجسية التي ينتقل فيها ذلك الشعور نحو الذات إلى شعور نحو الجماعة الوطنية أو العرقية أو الدينية التي ينتمي إليها، وتعطيه شعوراً وهمياً بالتفوق، وأنّه بحاجة إلى اعتراف الآخرين الدائم بتلك الحقيقة المتوهمة، وقد قدّم لنا التاريخ القديم والمعاصر نماذج كثيرة عن اضطراب النرجسية الجماعية، نذكر من ذلك بعض اليهود الذين يعتقدون أنّهم شعب الله المختار أو الحركة النازية التي نجحت في تسويق وهم سمو الجنس الجرماني، إلى ذلك من حركات سياسية وإيديولوجية ودينية، نظرت لتفوق جنس على باقي الأجناس. وقد تتوسع النرجسية الجماعية من جمهور لفريق كرة قدم إلى شعب بكامله، ويتعزز إمكان السقوط الجماعي في حالة نرجسية عندما يصادف الأمر نظاماً شمولياً.
قد لا يكون مفاجئاً حجم العداء الذي يبديه النظام الجزائري لكل ما هو مغربي، لكن الجميع يتفق على أنّه في الوقت نفسه، هناك روابط كبيرة تجمع البلدين، وهذه الروابط كانت حاجزاً أمام كل مشاريع النخب الحاكمة في الجزائر التي كانت تستهدف القطيعة المطلقة بين الشعبين المغربي والجزائري، وقد ظهر ذلك جلياً في تعاطف جماهير الشعبين الشقيقين في أكثر من مناسبة رياضية، في أشدّ لحظات التوتر والصراع بين البلدين، وربما كانت تلك المشاعر ردّ فعل على منطق القطيعة التي يستثمر فيها النظام الجزائري. لكن هل الصورة اليوم على ذلك الشكل؟ أم أنّ تغييرات عميقة حدثت؟.
الجزائري. وظل الأمر على ذلك النحو حتى بعد بداية مقابلات كأس العالم، بل تمّ تجييش جزائريين للاعتصام أمام مقر “الفيفا”، مروراً برفع العلم الجزائري في تظاهرة لا تشارك فيها الجزائر.
بل أكثر من ذلك، هو تعمّد إفساد فرحة جماهير أخرى مثل الجمهور السعودي والتونسي والمغربي في الدوحة، عبر تعمّد إقحام العلم الجزائري وصولاً إلى تلك المأثرة الجزائرية التي وصفت وضع دولة ساحل العاج بأنّه أقرب إلى العصر الحجري، وأنّ الجزائر مكانها الطبيعي هو بين إسبانيا والبرتغال، مروراً بالغضب من إنجازات المنتخب المغربي والفرح لخسارته أمام فرنسا في نصف نهائي كأس العالم، وتشجيع منتخب تانزانيا في كأس إفريقيا والاستخفاف بالمنتخب الموريتاني، بل إنّ مدرب المنتخب الجزائري الذي تمّ توقيفه من طرف “الكاف” والاتحاد التانزاني لكرة القدم، تعرّض لتلك العقوبة فقط لأنّه لم يستطع أن يتحرّر من “المغربوفوبيا” التي وضع أسسها النظام الجزائري. صحيح أنّه في المقابل هناك جزائريون يمثلون إستثناءً، لكن الصورة التي يستثمر فيها النظام الجزائري كانت هي تلك التي تكرّس القطيعة والعداء بين البلدين.
فهم النرجسية الجماعية في الجارة الشرقية، يتطلّب منا العودة إلى ما قام به النظام الناتج من الثورة الجزائرية، بعد التصفيات التي عرفتها، من استثمار في الإرث الاستعماري الفرنسي، حيث مثلت سردية الثورة، إيديولوجية للنظام الذي أقامته مجموعة وجدة، لذلك ليس مصادفة أن نجد إلى اليوم النظام الجزائري يستثمر إعلامياً ودعائياً في كل ما يتعلق بتلك الحقبة، من روايات فرنسية عن مصير عدد من المقاومين، إلى استرجاع جماجم عدد من “المجاهدين”، تبيّن في ما بعد أنّها ليست كذلك. كل هذا يتمّ بهدفين رئيسيين، الأول، يتعلق بتجديد شرعية النظام، وذلك بالتذكير المستمر بأنّه سليل ثورة مجيدة، وثانياً لبناء هوية وطنية جامعة تفتقد لإرث الدولة، مع تغييب الأسئلة المحرجة، بخاصة عن ازدواجية التعاطي مع الحقبة الاستعمارية، فمن جهة التذكير بالمقاومة وفظاعة الفرنسيين، ومن جهة أخرى القبول بالدولة وحدودها الناتجة عمّا اقتطعه الفرنسيون لأنفسهم من بلدان الجوار.
المفارقة أنّ الجزائر التي لم تكن موجودة كدولة قبل الاحتلال الفرنسي، أصبحت أكبر دولة من حيث المساحة في إفريقيا… ومع ذلك ما زال النظام فيها يعاني من متلازمة “المغرب-فوبيا”…