دكتور عادل بنحمزة
يتابع المغاربة منذ أسابيع الحركة الاحتجاجية الواسعة للمزارعين الأوروبيين، وكذلك الإجراءات الجمركية التي اتخذتها السلطات الموريتانية بخصوص صادرات الفواكه والخضار المغربية. وتصادفت تلك الأحداث بشكل واضح مع تراجع الأسعار في الأسواق المغربية، وهو ما قوبل بارتياح لدى المستهلكين المغاربة.
وزير الفلاحة المغربي خرج لنفي أية علاقة مباشرة بين توقف بعض الصادرات وتراجع الأسعار، بخاصة تلك الموجّهة إلى السوق الموريتانية، معللّاً ذلك بكون حجم تلك الصادرات يكاد لا يُذكر مقارنة بحجم الإنتاج الموجّه للتصدير.
عموماً، لا يمكن قراءة هذا الواقع بعيداً من حقيقة التحوّل الهيكلي الذي عرفه القطاع الفلاحي في المغرب، وبخاصة هيمنة اختيار إنتاج وتصدير المواد الفلاحية ذات القيمة المرتفعة، مع التباس هذا المفهوم في سياق التهديدات التي تحملها التحولات الجيواستراتيجية حول العالم، ذلك أنّ المغرب تحول للاعتماد بشكل كبير على الواردات من السوق الدولية بخصوص بعض حاجياته الغذائية، في مقابل تشجيع نوع خاص من الصادرات الفلاحية، والتي تتميز باستهلاكها الكبير للمياه،. فالواردات غالباً ما تكون لسدّ النقص أو لتحريك عجلة الصناعة الغذائية، مثل المواد الأولية التي تدخل في صناعة زيوت المائدة، والتي لم يعد إنتاجها يتمّ محلياً بالنظر لوفرتها في الأسواق الدولية وبأسعار منخفضة، أو عملية زرع بعض المنتجات الزراعية التي تتطلّب أدوية وأسمدة لا يتمّ إنتاجها محلياً، ما يجعل المغرب عرضةً للتقلّبات في الأسعار العالمية، وهو ما يمكن أن يؤثر على قدرته على تلبية احتياجات المواطنين في المستقبل، كلما أُصيبت سلاسل التوريد بعدم الاستقرار واليقين، مثل تأثيرات الحروب أو الإجراءات الاحترازية أو القيود الحمائية أو التهديدات التي تواجه ممرات التجارة العالمية.
هذه القراءة تأتي في سياق ما يعرفه المغرب من صعوبات، تتمثل في مواجهة سنة جافة تُضاف إلى السنوات السابقة التي تميّزت بجفاف قاسٍ بكل يمثله ذلك من ضغط متزايد على موارد البلاد المائية المحدودة جداً، علماً أنّ المغرب تأخّر في تنفيذ البرامج والمخطّطات التي كان من شأن تنفيذها أن تشكّل أحد الأجوبة عن هذه الوضعية الصعبة، سواءً من خلال ترشيد استهلاك المياه أو الانخراط في بدائل مثل تحلية مياه البحر وتدوير المياه العادمة، ذلك أنّ ما يعرفه المغرب اليوم من شح في المياه لا يتعلق بتغيير طارئ في حالة الطقس، بل بمتغيرات جوهرية تطال المناخ بصفة عامة، وهي ظاهرة طبيعية قد تستمر لا قدر الله لعقود مقبلة.
وهنا لا بدّ من الإشادة بما يتمّ إنجازه من مشاريع في إطار آلية جلسات العمل الملكية التي خصّصت أكثر من اجتماع لإشكالية المياه، من أجل تدارك الخصاص في المبادرات الحكومية التي تراكمت لعقد كامل في ظل الحكومتين السابقتين، والتي تميزت مرحلتهما بضعف السياسات العمومية المرتبطة بالمياه، بخاصة السباق مع الزمن في مشاريع تحلية مياه البحر، وأساساً المشروع العملاق للطرق السيارة للمياه، من خلال المشروع النوعي غير المسبوق والمرتبط بتحويل جزء من مياه حوض سبو إلى حوض أبي رقراق الشاوية بتكلفة مالية تقدّر بـ7 مليارات درهم، والذي تمّ تنفيذه وتشغيله في زمن قياسي عبر مقاولات مغربية. ونستحضر هنا مشاريع أخرى مبرمجة بخاصة مشروعي الداخلة وكلميم في ما يتعلّق بتحلية مياه البحر، بما يسمح بتمكين عاصمتي الجهتين ومدهما بالمياه الصالحة للشرب مع مجال فلاحي سقوي لكل جهة يبلغ 5000 هكتار.
البرامج والمبادرات التي تقوم بها الحكومة الحالية، توضح أنّ منظور المغرب للسيادة الغذائية يتجاوز الفهم التقليدي للسيادة في بُعدها الوطني الشامل، إلى رؤية جهوية أكثر شمولاً، تُمكّن من تدارك غياب المدارات السقوية في بعض الجهات أو الطابع البنيوي للجفاف في أغلب الأحواض المائية، بخاصة في العقود الأخيرة، ذلك أنّه من المهمّ توفر كل جهة من جهات المملكة على مدارات سقوية تلبّي حاجياتها وتضعف من نفوذ الوسطاء. كما أنّ من شأن كل ذلك أن يقلّص فاتورة نقل المواد الغذائية، بخاصة الفواكه والخضر، وهو ما ينعكس على أسعارها كلما ابتعدت عن المنشأ.
هذه المشاريع الكبرى من شأنها أن تساهم في الحدّ من تبعات تراكم سنوات الجفاف وسوء التعاطي مع المياه التي لا تُقدّر بثمن، لذلك فإنّ المغرب وبروح جماعية من النقد الذاتي، يحتاج إلى الشجاعة الكافية لمراجعة السياسات والاختيارات، متى ظهر أنّ الواقع يتجاوزها، وأنّها لا تحقق الاستدامة المطلوبة، وبخاصة عندما تصبح مصدراً لحالة من عدم اليقين في المستقبل وبالنسبة للأجيال المقبلة.
من المفيد هنا التذكير بأهمية موضوع السيادة الغذائية في علاقته بتوفر منظومة وطنية للمخزون الإستراتيجي للمواد الغذائية الأساسية الكافية لتلبية الطلب الوطني. وهنا لا بدّ من التذكير بالتوجيهات الملكية، فقد خاطب الملك محمد السادس مجلس النواب المغربي في الجلسة الافتتاحية للدورة الخريفية في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 قائلاً: “أظهرت الأزمة الوبائية عودة قضايا السيادة للواجهة، والتسابق من أجل تحصينها، في مختلف أبعادها، الصحية والطاقية، الصناعية والغذائية، وغيرها، مع ما يواكب ذلك من تعصّب من طرف البعض. وإذا كان المغرب قد تمكن من تدبير حاجياته، وتزويد الأسواق بالمواد الأساسية، بكميات كافية، وبطريقة عادية، فإنّ العديد من الدول سُجّلت فيها اختلالات كبيرة في توفير هذه المواد وتوزيعها. لذا، نشدّد على ضرورة إحداث منظومة وطنية متكاملة، تتعلّق بالمخزون الاستراتيجي للمواد الأساسية، لا سيما الغذائية والصحية والطاقية، والعمل على التحيين المستمر للحاجيات الوطنية، بما يعزز الأمن الاستراتيجي للبلاد …”. وبذلك يكون المنظور الملكي للسيادة الغذائية؛ متجاوزاً للمفهوم الضيّق للأمن الغذائي.
إنّ أطروحة وضع منظومة وطنية للمخزون الإستراتيجي للمواد الغذائية الأساسية، هو اختيار وطني سيادي لكسر منطق الاقتصاد المعولم، وهذا يتطلّب من المغرب بذل جهود مضاعفة في ما يتعلق بالتعليم وتطوير البحث العلمي والاستثمار الأمثل للذكاء الاصطناعي، لتعزيز الاستقلالية عن الخارج. وقد عبّرت الحكومة منذ عرض التصريح الحكومي، عن وعيها بأهمية السيادة الغذائية بالنسبة للمغرب. ففي المحور الثاني التزمت في ما يتعلق بالفلاحة بالعمل على تنفيذ استراتيجية “الجيل الأخضر”، والحرص على تفعيل التوجيهات الملكية الرامية إلى إحداث منظومة وطنية متكاملة، تتعلق بالمخزون الاستراتيجي للمواد الأساسية، لا سيما الغذائية والصحية والطاقية، مع العمل على التحيين المستمر للحاجيات الوطنية، بما يعزز الأمن الاستراتيجي للبلاد.
وفي المحور الثالث تعهدت الحكومة بإعادة هيكلة منظومة الحوكمة المائية من أجل تعزيز النجاعة والانسجام بين البرامج والفاعلين في أفق توفير وتوزيع عادل للموارد المائية بين الجهات وداخل كل جهة، من خلال الوقوف على التنزيل المحكم لبرامج بناء السدود وتحلية مياه البحر ومعالجة المياه العادمة ومياه الأمطار، ثم تحسين مردودية قنوات توزيع مياه السقي والشرب. والتزمت الحكومة في المحور ذاته بأنّها ستعمل على تسريع تنزيل وتحيين مضامين برامج الانتقال الطاقي، آخذة في الاعتبار كل مكوناتها لا سيما المتعلقة بالطاقات المتجددة والمخطط الغازي والهيدروجين الأخضر.
هذه الالتزامات الواردة في المحورين الثاني والثالث من البرنامج الحكومي، توضح مدى وعي الحكومة بترابط موضوع السيادة الغذائية مع كل من الانتقال الطاقي والبيئي. هذا الأمر يؤسس لحاجة ملحّة في الحسم المفاهيمي العملي، من خلال واجب التمييز بين مفهوم السيادة الغذائية ومفهوم الأمن الغذائي.