![](https://maghrebalalam.com/wp-content/uploads/2025/02/2024-12-18t171649z_1752544459_rc2gqbapbj3n_rtrmadp_3_usa-trump-mining5603209588053838992-1024x576.jpg)
الدكتور عادل بن حمزة
![](https://maghrebalalam.com/wp-content/uploads/2025/02/image_editor_output_image29019203-17389432375638758766051411247950.jpg)
منذ أدائه القسم الدستوري ودونالد ترامب يشعل الحرائق على أكثر من صعيد، البعض لازال يعتبر كل ذلك مجرد صدمات متعمدة لتحسين شروط التفاوض، فترامب يرفع سقف المطالب عاليا وينتظر عروض الآخرين، وكلما تأخر الرد كلما ضاعف التهديدات، في غزة طالب بوقف النار وإطلاق سراح الأسرى وإلا سيحول غزة والشرق الأوسط إلى جحيم، بعد ذلك طالب مصر والأردن باستقبال سكان غزة لأن إعادة الإعمار غير ممكنة في وجودهم، وعندما تلقى الرد بتجديد رفض عمان والقاهرة مسنودين بموقف عربي عبر عنه بيان وزراء خارجية كل من السعودية والإمارات وقطر والأردن ومصر وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأمين عام الجامعة العربية، ألقى ترامب قنبلته العنقودية عندما قال أن الولايات المتحدة الأمريكية ستبسط سيطرتها على غزة وستجعلها ريفيرا شرق المتوسط، لكن بدون سكانها، فغزة مجرد قطعة أرض جميلة والفلسطينيين يمكن أن يسكنوا في مكان آخر بعيدا عن الدمار وأهوال الحروب، هذه المقاربة التي يعتبرها البعض رؤية رجل أعمال مشتغل بالعقار، لا تعكس في الواقع حقيقة “الرؤية” التي تحكم أمريكا اليوم في ظل ولاية ترامب الثانية، ذلك أن ترامب ينظر بنفس المنظار لأماكن أخرى من العالم يكفي أن نستعيد رغبته في شراء غرينلاند ونزع سيادتها من الدنمارك، وإلحاق كندا بوصفها الولاية 51، وإعادة السيطرة على قناة بانما، وهو ما يجعلنا، ليس فقط أمام سياسي غير تقليدي كما درج الجميع وصفه بذلك في ولايته الأولى، بل أمام مرحلة جديدة في التعاطي مع مع مفاهيم شديدة التعقيد والخطورة وعلى رأسها مفهومي الدولة والسيادة، وهي مرحلة ترتبط فيها السياسة بالمال والتكنولوجيا إرتباطا شديدا.
في ولايته الأولى حقق ترامب مفاجئة مدوية بوصوله إلى البيت الأبيض، وخلال حملته الانتخابية لم يخفي عدائه ومهاجمته لمؤسسة الحكم، بما في ذلك الإعلام والمانحين والأوليغارشية ونخبة واشنطن، وفي حفل تنصيبه رسميا رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية قال :”لزمن طويل جدا، قطفت مجموعة صغيرة في عاصمة أمتنا ثمار الحكم في حين تحمل الشعب الثمن. ازدهرت واشنطن لكنّ الشعب لم يشاركها ثروتها. ازدهر السياسيون لكنّ الوظائف انعدمت والمصانع أغلقت. لقد حمت مؤسسة الحكم نفسها لكنها لم تحم المواطنين ولا بلادنا”.
سردية ترامب حول مؤسسة الحكم والنخب الأوليغارشية جذبت كثيرين ممن كانوا بحاجة إلى زعيم قادر على مواجهة ماكينة صنع نخب على المقاس في الحزبين التقليديين، ساعده ذلك على التحول إلى أيقونة لتيار شعبوي واسع كان بحاجة إلى زعيم عادي يشبههم، وهذا يتوافق مع تحليل أوربيناتي Nadia Urbinati للشعبوية في كتابها الهام” أنا الشعب كيف حوّلت الشعبوية مسار الديمقراطية” إذ قاربت الشعبوية “ليس بوصفها مجرد عرضٍ لإعياءٍ بسبب “مؤسسة الحكم” والأحزاب الراسخة، بل كذلك بوصفها دعوة مشروعة للسلطة من الناس العاديين الذين أخضعوا لسنواتٍ للدخل المتدني والنفوذ السياسي، هذا الأمر يفسر درجة الانقسام الكبيرة التي يعرفها المجتمع الأمريكي المؤطر بكم هائل من خطاب الكراهية بالإضافة إلى التحولات العميقة التي تعرفها قواعد اللعبة الديمقراطية التي إستقرت في الممارسة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو ما يدفع إلى ضرورة بحث هذه الظواهر الجديدة والتي تعبر في أحد وجوهها عن شيخوخة زاحفة على نموذج الديمقراطية التمثيلية، وعجز الخطابات التقليدية في كسب المعارك الانتخابية التي أصبح دورها محدودا.
ترامب في ولايته الأولى كان محاطا بجزء من المحافظين في الحزب الجمهوري، وهم سياسيون تقليديون على العموم، لذلك اصطدام بهم ترامب في أكثر من مناسبة وقام بعزل الكثير منهم بينما فضل آخرون تقديم استقالاتهم، وأهم الخصومات التي واجهها ترامب كانت مع قادة وادي السليكون فتويتر حجبت حسابه وفيسبوك حرض على أنصاره ممن اقتحموا الكونغرس كما كان موقفه رافضا للعملات المشفرة، الصورة مختلفة اليوم وقد ظهر ذلك منذ الحملة الانتخابية وليلة إعلان النتائج وفي حفل التنصيب، فالرجل كان محاطا على غير العادة بقيادة وادي السليكون من ماسك إلى سام ألتمان مرورا بجيف بيزوس وبيل غيتس و زوكنبورغ. في مقال للكاتبة الكندية مارتين ديلفو Martine Delvaux نشر على صحيفة “ليبراسيون”، قالت أن زمن “البروليغارشية broligarchie قد وصل، زمن حكم “الإخوة” الأكثر غنى، الأكثر بياضا، والأكثر قوة، الذين جاؤوا رأسا من وادي السليكون، ليجلسوا رفقة إلون ماسك أغنى رجل في العالم، على يمين دونالد ترامب. هكذا يوجد على طاولة السلطة في الولايات المتحدة. مافيا Paypal والرجال الذين على رأس شركة سبيس إكس، وتسلا، وإكس وإكس آي، وإير بي إن بي، وميتا… “، هذه المشهدية تعلن أكبر تحدي في التاريخ لزواج التكنولوجيا بالسلطة فيما يعتبره البعض قيام سلطة خامسة، تقوم على الحضور في دواليب السلطة في واشنطن مسنودة بقوة الإعلام الجديد المبني على شبكات التواصل الاجتماعي والخوارزميات والذكاء الاصطناعي،
والعملات المشفرة خارج سلطة البنك المركزي، والأنظمة البنكية، لكن هذه السلطة عوض أن تعكس التقدم الاجتماعي من خلال لامركزية السلطة السياسية، فإن تسلسل هرمي جديد للسلطة يتشكل، سلطة آخذة في التبلور، مكونة من رجال من أصحاب المليارات، والذين يعتبر الحكم بالنسبة لهم مجرد مشهد.
“ميديا بارت” الفرنسية خلصت في توصيفها للمشهد الجديد إلى أنه مع دونالد ترامب، هناك تغيير حقيقي في الطبيعة. لم تعد الرأسمالية المالية القائمة منذ الثمانينيات. لم تعد مؤسسات وول ستريت الكبرى، مثل جولدمان ساكس أو جي بي مورجان أو الصناعيين الأقوياء مثل “بيكتل” التي ترسل بعض مديريها التنفيذيين إلى مناصب تنفيذية رئيسية. نحن نشهد ولادة بلوتوقراطية يهيمن عليها مليارديرات مستقلون، يعملون من أجل مصالحهم الخاصة، في طريقهم للسيطرة المباشرة على الدولة.أما “ميشيل غولبيرغ” فكتب في مقال رأي على “الواشنطن بوست”
أن أسياد التكنلوجيا، مهما بدا أنهم ليبراليون في السابق، فإنهم يرحبون بالنظام الجديد. فقد كره الكثير منهم حركات الدفاع عن الحريات والسود والأقليات، واستاؤا من مطالب الموظفين المغرورين الجدد، وغضبوا من محاولات إدارة جو بايدن لتنظيم التشفير والذكاء الاصطناعي.
الواقع اليوم أننا أمام ميلاد “الفيودالية التقنية” بتعبير الاقتصادي اليوناني ينيس فروفيكس Yanis varoufaiks في كتابه “العبيد الجدد للاقتصاد” Les nauveux serfs de l’économe وذلك في ظل الموت الرسمي للرأسمالية، بمعنى أننا أمام براديغم جديد للاقتصاد والدولة وأدوارها، وقد بدأ ذلك فعليا عندما تحول الأنترنت من فضاء حر إلى فضاء لهيمنة “الفيودالية التقنية”.