الدكتور عادل بنحمزة
خلّد المغاربة الثلاثاء الماضي الذكرى الـ 71 لثورة الملك والشعب. ففي 20 آب (أغسطس) 1953، امتدت أيادي الاستعمار الفرنسي إلى الملك محمد الخامس والأسرة الملكية، وذلك بنفيهم إلى مدغشقر، عقاباً للملك على مواقفه المناهضة للاستعمار، وتنسيقه مع الحركة الوطنية.
تؤرّخ هذه الذكرى لحدث فريد على المستوى العالمي، في لحظة لا يزال المغرب يعمل فيها على تحقيق أهداف الاستقلال، أو كما قال الملك محمد الخامس نفسه، عند إعلان الاستقلال بعد عودته منتصراً من المنفى، إن المغرب خرج من الجهاد الأصغر الذي هو طرد المستعمر، إلى الجهاد الأكبر وهو بناء الدولة على أسس عصرية وتحقيق الكرامة للمغاربة. لذلك، تظهر أهمية الذكرى وما ترمز إليه من حدث تاريخي كبير في تاريخ الأمة المغربية، من خلال رمزية الاحتفاء بها والاسترشاد بما تمثله من دروس كبيرة في التضحية وفي التعبئة الوطنية.
بالنسبة إلى المغرب، لا يزال أثر الحركة الاستعمارية ممتداً إلى اليوم، خصوصاً من زاوية استكمال وحدته الترابية، إذ لا يزال أثر الفعل الاستعماري يمثل وقوداً للصراع المفتعل بشأن الصحراء المغربية، وعبره توتر إقليمي مصطنع يتمّ توظيفه لابتزاز المغرب وللحدّ من طموحاته في أن يكون دولة صاعدة، ونموذجاً في محيطه الإقليمي. فإذا كانت الحركة الاستعمارية سبباً مباشراً في ظهور عدد من الدول في المنطقة، فإنها في ما يخصّ المغرب كانت سبباً في المسّ بوحدة تاريخية وبأمة ممتدة عاشت موحّدة تتقاسم الكثير من القيم، قروناً طويلة قبل المدّ الكولونيالي. لذلك، يصبح التفكير في أثر حركة الاستقلال والاستعمار على الحاضر والمستقبل تمريناً فكرياً هو غاية في الأهمية، خصوصاً بالنسبة إلى المجتمعات التاريخية كالمجتمع المغربي الذي يضرب عميقاً بأصالته في جذور التاريخ، من زاوية رسوخ الدولة واستمرارها على مدى أزيد من 12 قرناً وما سبقها من دول وبنيات، في الوقت الذي لا تزال مجتمعات أخرى تعيش أزمة في ترسيخ فكرة الدولة وفي البحث عن هوية جامعة، وما لذلك من أثر في سلوك أنظمتها على المستوى الداخلي أو الخارجي.
تجدر الإشارة إلى أن النواة الأولى التي تشكّلت منها شرارة الحركة الوطنية المغربية، إنما كانت عقب إصدار السلطات الاستعمارية ما سُمّي بالظهير “البربري” في 16 أيار (مايو) 1930، إذ عمل عدد من العلماء الوطنيين على قراءة ما سُمّي “اللطيف” في المساجد، دفاعاً عن الإسلام وعن وحدة الأمة المغربية التي كانت مستهدفة بشدّة في وحدتها وهويتها. لذلك، فإن تأسيس كتلة العمل الوطني في عام 1934، وبعدها الحزب الوطني في عام 1937، لا يمكن فصله عن نشأة حزب الاستقلال في عام 1944، والتي كانت استجابة لحاجة مجتمعية ملحّة هي الدفاع عن الإنسية المغربية، وعن الشخصية المغربية، في وجه الدولة الكولونيالية. وعندما نعود اليوم إلى هذه الصفحات من تاريخ جهاد الأمة المغربية من أجل الحرّية والاستقلال، وعلى رأسها الملكان الراحلان محمد الخامس والحسن الثاني، فإنما للتأكيد على أن الهدف من عمل الحركة الوطنية كان تحقيق الاستقلال وإرساء نظام ديموقراطي، وهو الأمر الذي جسّدته بجلاء وثيقة 11 كانون الثاني (يناير) 1944، الوثيقة التي عكست تحولاً جوهرياً في خطاب الحركة الوطنية المغربية، من المطالبة بتحقيق مجرد إصلاحات في ظل الحماية إعمالاً لبنود عقد الحماية (دفتر مطالب الشعب المغربي في عام 1934 نموذجاً)، إلى المطالبة بالاستقلال الكامل في توظيف ذكي للوضعية التي كانت تعرفها فرنسا في تلك الفترة، خصوصاً نتائج الحرب العالمية الثانية واندحار فرنسا في عدد من مستعمراتها، خصوصاً في فيتنام.
كانت الحركة الوطنية تسعى أساساً إلى تقويض الدولة الكولونيالية وتحقيق الاستقلال، وبناء نظام ديموقراطي تكون فيه السيادة للأمة، يقوم على العدالة الاجتماعية والحرّيات وإنصاف الأفراد والمناطق في مغرب موحّد واحد، ليس فيه مجال لمغرب نافع وآخر غير نافع، واللحظة الفارقة التي يعيشها المغرب اليوم، من خلال الورش المفتوحة على طول البلاد وعرضها، والوعي العميق بخصوصية عدد من المجالات الترابية، والذي جسّده العاهل المغربي هذا الأسبوع من خلال ربط ذكرى وطنية كبيرة مثل ثورة الملك والشعب، بالعفو عن آلاف المتابعين في قضايا زراعة القنب الهندي في شمال المغرب، وخصوصاً منطقة الريف، وهو ما يؤكّد قدرة الملكية على رؤية أعمق تتجاوز الحسابات الظرفية، مهما كانت طبيعتها. وهذا خلّف ارتياحاً واسعاً لدى آلاف الأسر في المنطقة، ما يمهّد بلا شك لقرارات آتية تُعتبر امتداداً لاهتمام الملك محمد السادس بالمنطقة منذ توليه العرش.
تحلّ الذكرى الـ71 لثورة الملك والشعب، والمغرب ما زال مستهدفاً من خصومه في المنطقة. وفي أسباب ذلك، يقول الملك محمد السادس في إحدى خطبه “إن المغرب مستهدف لأنه دولة عريقة تمتد لأكثر من اثني عشر قرناً، فضلاً عن تاريخها الأمازيغي الطويل، وتتولّى أمورها ملكية دستورية ومواطنة منذ أزيد من أربعة قرون، في ارتباط قوي بين العرش والشعب. والمغرب مستهدف أيضاً لما يتمتع به من نعمة الأمن والاستقرار التي لا تُقدّر بثمن، خصوصاً في ظل التقلّبات التي يعرفها العالم”. وهذا الاستهداف الذي يهمّ المغرب، يفرض عليه جملة من التحدّيات، يرتبط بعضها بتحدّيات داخلية تهمّ القدرة الجماعية على إنتاج خطاب تعبوي جماعي قادر على تمثّل روح الاستقلال، وجعلها ممتدة في الحاضر، تلقي بظلالها على المستقبل، وخارجية ليست في النهاية إلّا مظهراً للتعبئة الجماعية الداخلية، التي بمقدورها أن تمنح المغرب المكانة التي يستحقها في محيطه الإقليمي والدولي.