
بقلم: الدكتور عادل بن حمزة

لم يكن أحد يتوقع أن يتحوّل قرار حكومي بحظر منصات التواصل الاجتماعي إلى ثورة شعبية عارمة تهزّ أركان النظام السياسي في نيبال. لكن هذا ما حدث خلال الأيام الأخيرة، حين خرجت أعداد هائلة من شباب الجيل Z إلى الشوارع رفضًا لحجب فيسبوك ويوتيوب وإنستغرام، ليكتشف العالم أن هذه الشرارة الصغيرة كانت كافية لإشعال غضب متراكم منذ سنوات ضد الفساد، البطالة، والمحسوبية.
المشهد كان دراماتيكياً: وزراء يفرون من العاصمة كاتماندو عبر مروحيات، القصر الرئاسي يتعرض للهجوم والحرق، والبلاد تغرق في فراغ سياسي غير مسبوق. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن لنيبال أن تواجه انهيارًا بهذا الحجم في مؤسساتها؟ ثم كيف تطور مطلب بسيط مثل استعادة حرية الإنترنت إلى ثورة تهدد بتغيير النظام السياسي بأكمله؟ بحيث قد يكون جيل Z اليوم هو القوة التي تفتح الباب نحو نظام جديد أكثر ديمقراطية وشفافية.
لماذا أثار منع وسائل التواصل الاجتماعي كل هذا الغضب؟ ببساطة لأن جيل Z النيبالي، وهو ما يتقاطع فيه مع نظرائه في عدد من دول العالم، لا يرى الإنترنت كترف بل كمساحة للحياة اليومية: التعليم، العمل، الهوية الاجتماعية. قطع هذه الشبكات بدا وكأنه محاولة لقطع شريان الحياة ذاته. ومع تراكم الفساد، البطالة، والشعور بالتهميش، تحوّل الحظر إلى القشة التي قصمت ظهر البعير.
اللافت أن هذا القرار دفع الشباب إلى النزول إلى الشارع بدل الاكتفاء بالفضاء الرقمي/الافتراضي. تحولت الساحات إلى “فيسبوك واقعي”، حيث اجتمع الطلاب والطالبات حاملين كتبهم ولافتاتهم التي طالبت أولًا برفع الحظر، ثم انتقلت سريعًا إلى شعارات مثل: “أوقفوا الفساد وليس وسائل التواصل”.
ومع سقوط قتلى وجرحى برصاص قوات الأمن، ارتفع سقف المطالب أكثر فأكثر، من مجرد مطلب تقني إلى دعوة لإسقاط النظام السياسي برمته. استقالة رئيس الوزراء، ثم فرار أعضاء الحكومة، جعلت المتظاهرين يشعرون أن النظام كله هش ويمكن تغييره.
تجربة اليوم تذكّرنا بالثورات السابقة في نيبال، وتحديدًا ثورة 1990، وجه الشبه كبير أنه في كل مرة يصدر قرار سلطوي يقيد الحريات، تتبعه ثورة تغير النظام السياسي، وفي كل مرة تتحول المظاهرات من مطلب جزئي إلى ثورة سياسية شاملة. لكن الفارق الجوهري أن ثورتي 1990 و2006 قادتهما أحزاب سياسية منظمة وتحالفات مع الماويين وضغط دولي، بينما يقود ثورة 2025 جيل شاب عفوي بلا قيادة حزبية، بل بتنظيم ذاتي و “عقيدة رقمية”، فإذا كانت ثورة 2006 قد أنهت الملكية وفتحت الباب للجمهورية، فإن ثورة جيل Z قد تكون بداية نهاية للنظام الحزبي التقليدي الذي سيطر على البلاد منذ 30 عامًا.
انطلاقًا من هذه الخلفية التاريخية، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات لما يمكن أن تعرفه نيبال:
أولا. انتقال منظم نحو نظام جديد: عبر تشكيل حكومة انتقالية، صياغة دستور جديد، وإدماج الشباب في المؤسسات. هذا السيناريو هو الأكثر تفاؤلًا، شبيه بما جرى عام 2006، لكنه يحتاج إلى قيادة واضحة تترجم غضب الشارع إلى مشروع سياسي.
ثانيا. الفوضى والفراغ: إذا فشلت أي جهة في ملء الفراغ، قد تتدخل المؤسسة العسكرية أو القوى الخارجية (الهند، الصين)، ما يفتح الباب أمام قمع دموي أو حتى حرب أهلية.
ثالثا. إعادة تدوير النظام: قد تستجيب النخب الحزبية التقليدية جزئيًا عبر وجوه جديدة أو وعود إصلاحية، لكن من دون تغيير جذري. وهو السيناريو الأكثر احتمالًا على المدى القصير، شبيه بما جرى بعد 1990 حين بقيت نفس النخب تتحكم في المشهد رغم إدخال إصلاحات شكلية.
ما يميز ثورة جيل Z أنها أول ثورة في نيبال يقودها جيل ولد في عصر مواقع التواصل الاجتماعي ويستخدم أدوات رقمية كامتداد لوعيه السياسي. لذلك، نجاحها أو فشلها سيحدد شكل الجمهورية النيبالية لعقود مقبلة، ويمثل تجربة سيكون لها أثرها في أكثر من مكان في العالم، فإما أن تكون ثورة جيل Z نقطة انطلاق نحو جمهورية جديدة أكثر ديمقراطية، أو تتحول إلى فصل آخر من الإحباط السياسي الذي يعيد إنتاج الفساد نفسه.
ما جرى يذكّرنا بحقيقة بسيطة: أحيانًا لا تبدأ الثورات من بنادق المتمردين ولا من خطابات الأحزاب، بل من قرار صغير خاطئ يحاول تكميم أصوات الناس. في نيبال، مجرد حظر لمواقع التواصل الاجتماعي أشعل نارًا قد تغيّر النظام السياسي بأكمله. بذلك يكون درس النيبال الأساسي يتمثل في كون حرية الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي، أخف ضررا في ظل بنية سلطوية، من حجبها.
