الدكتور عادل بنحمزة
تعيش كثير من دول العالم على وقع سلسلة من الانتخابات بسياقات محلية وجهوية شديدة التعقيد، لكن المؤكد أننا بصدد عملية تحول سياسي في عدد من الدول حول العالم، انطلاقاً من إيران ووصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية، مروراً ببروكسيل (انتخابات البرلمان الأوروبي)، وفرنسا وبريطانيا.
هذه الانتخابات يغلب عليها الطابع المحلي حيث قلق النخب والمواطنين على السواء من أداء القيادات السياسية وضعف هامش البدائل المطروحة، لكن الأكيد أن الأحزاب الموجودة في السلطة سوف تدفع ثمناً كبيراً، ولا يتعلق الأمر هنا بصعود تيار سياسي إيديولوجي وفق سردية واضحة، بل فقط بدفع ثمن فشل السياسات الاقتصادية، ففرنسا مثلا تتجه ناحية اليمين المتطرف بينما جارتها بريطانيا تتجه ناحية اليسار من خلال عودة تاريخية وقياسية لحزب العمال.
على هامش تلك الانتخابات برزت ظاهرة عودة رؤساء سابقين، سواء الى مواقع المسؤولية الحكومية أم للمنافسة الانتخابية. نسجل هنا عودة ديفيد كاميرون وتوليه وزارة الخارجية في بريطانيا، وعودة دونالد ترامب كمرشح للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأميركية، كذلك عودة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند للتنافس في الانتخابات البرلمانية وترك موقعه كعضو في المجلس الدستوري، شأنه شأن الرؤساء الفرنسيين السابقين، كما يدور الحديث في تركيا عن احتمال ترشح الرئيس السابق عبد الله غول. هذه الظاهرة عرفتها أيضاً روسيا في سياق خاص حيث تناوب بوتين ومدفيديف على كرسي رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء، غير أن بوتين كان هو السيد دائماً.
ظاهرة عودة ترشح الرؤساء تحمل دلالات مختلفة، قد تكون مقبولة في سياق ديموقراطيات ناشئة أو أنظمة هجينة، لكن عندما نصادف الظاهرة في دول عريقة في الديموقراطية، فإن ذلك يحمل دلالات لعل أبرزها هو ما أصاب النخب من تكلس وابتعاد عن الشأن العام وتحول المناصب السيادية الكبرى إلى مجال مراهنات بين اللوبيات الاقتصادية المتسارعة، بل أكثر من ذلك تحول تلك المناصب إلى مجرد واجهة للدولة العميقة وبلا تأثير حقيقي في صناعة القرار.
إحدى صور العودة الاستثنائية والمشهدية التي عرفها العالم في السنوات الأخيرة، كانت عودة اليساري المخضرم لولا دا سيلفا، اذ عاشت البرازيل تجربة فريدة تمثلت في عودته بوصفه الرئيس البرازيلي السابق إلى قمة المشهد السياسي في بلاده بعد سنوات من المحاكمات والسجن في حملة انتخابية طويلة، عاد لولا كطائر الفينيق في الميثولوجيا الإغريقية. في نهاية نيسان (أبريل) 2021 أطلق سراح أيقونة اليسار البرازيلي من ضمن تعديلات قانونية استفاد منها حوالى 5 آلاف سجين، من بينهم دا سيلفا الذي حوكم بتهم فساد، لكن لجنة أممية لحقوق الإنسان خلصت في تقرير لها إلى أن محاكمته انتهكت حقه في محاكمة عادلة، وحقه في الخصوصية وحقوقه السياسية. فمن يكون هذا القائد الذي أعاد الاعتبار للسياسة في بلاده واستطاع أن يواجه الأطماع الأميركية التقليدية في أميركا اللاتينية ويجعل من البرازيل قوة اقتصادية وعلمية صاعدة؟
من ماسح أحذية في شوارع ساو باولو إلى رئيس نقابة عمال الحديد ثم إلى رئيس لثامن قوة اقتصادية في العالم، إنه الأسطورة لولا دا سيلفا زعيم حزب العمال البرازيلي الذي قاد البلاد من 2003 إلى 2010 وعاد من السجن إلى كرسي الرئاسة.
عرف دا سيلفا بإصراره الكبير، بداية من هزمه ظروف الفقر التي عاش في ظلها ضمن أسرة تخلى فيها الأب عن مسؤوليته فكانت الأم هي السند الوحيد، إلى مختلف المعارك التي خاضها في حياته السياسية والنقابية. يكفي أن لولا قبل أن يصبح رئيساً للبرازيل للمرة الأولى، سبق أن خسر معركة الرئاسة ثلاث مرات سنوات 1989 و1994 و1998، لكن في كل انتخابات ورغم الخسارة، كان حزب العمال يعزز موقعه بثبات في المعارضة إلى حين اكتساح الرئاسة بأكثر من 60 في المئة من الأصوات في ولايته الأولى.
البعض رأى في متابعة لُولا قضائياً استمراراً للتطور الديموقراطي والاقتصادي الذي عرفته البرازيل منذ صعود حزب العمال إلى السلطة بوصول دا سيلفا إلى رئاسة البلاد، بينما رأى آخرون في ذلك مجرد مؤامرة تستهدف بالدرجة الأولى حزب العمال الذي استطاع أن يحافظ على حضوره الانتخابي والسياسي معتمداً على حجم الإنجازات الكبيرة التي تحققت في عهد دا سيلفا منذ 2003، بخاصة على مستوى تقليص نسبة الفقر والفوارق الطبقية، إذ تغير وجه البرازيل من كونها فقط بلاد كرة القدم ورقصة السامبا، إلى عملاق اقتصادي وتكنولوجي صاعد منذ عودة الجيش إلى الثكنات سنة 1985 في واحدة من تجارب الانتقال الديموقراطي في أميركا اللاتينية، حيث أصبح الاقتصاد البرازيلي ثامن اقتصاد عالمي وأحد أعمدة دول البريكس (BRICS).
بعيدا عن التجربة البرازيلية الشاعرية إن صح التعبير، نعود إلى الوراء لنستحضر سيرة رجل دولة كبير ترجل عن صهوة السلطة والحياة في وقت متقارب. كان شارل ديغول رجلاً عظيماً في تاريخ فرنسا، اذ لا يمكن أن تذكر فرنسا، من دون الحديث عن ديغول، استطاع الرجل أن يتجاوز ربيع باريس سنة 1968 بخبرته وتجربته الكبيرتين، بل فاز بالانتخابات النيابية التي أعقبت ذلك الربيع، في وقت كان الجميع يعتقد أن الحزب الشيوعي الفرنسي سيستثمر تلك الأحداث لفائدته.
في سنة 1969 دعا ديغول الشعب الفرنسي الى استفتاء سعى من ورائه إلى إدخال تعديلات تخص عدداً من المجالات الحيوية، بل ربط استمراره في رئاسة الجمهورية بنتيجة التصويت. الفرنسيون كانوا يقدرون ديغول بلا شك، لكن جزءاً كبيراً منهم لم ترقه تلك الاصلاحات، فجاءت نتيجة التصويت بـ”لا” بنسبة 52%، فما كان من الكبير ديغول سوى أن سارع الى إعلان استقالة من سطرين أمام ذهول الجميع: “أعلن توقفي عن ممارسة مهامي رئيساً للجمهورية. يصبح هذا القرار نافذاً ظهر اليوم 29 نيسان (أبريل) 1969″، بعدها بسنة فقط غادر ديغول الحياة الى الأبد تاركاً وصية هي الأخرى من سطرين، طلب في الأول ألا يحضر جنازته رؤساء ولا وزراء، وطلب في الثاني ألا يكتب على قبره سوى “شارل ديغول 1890-1970”.