الصحافي فؤاد السعدي
إهدار المال العام بالوكالة الوطنية للسلامة الطرقية يعكس استهتارًا واضحًا بمبدأ الحكامة الجيدة، وهو أمر يتنافى مع روح المسؤولية التي شدد عليها جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة عيد العرش سنة 2018، حين قال: “إن المسؤولية تتطلب الالتزام بخدمة المواطن وجعل مصالحه فوق كل اعتبار، وتدبير الأموال العمومية بكل شفافية وحكامة”، وعليه فإن توجيه مبالغ طائلة نحو أنشطة واحتفالات هامشية، بدل استثمارها في مشاريع تعزز السلامة الطرقية وتقلل من حوادث السير التي تفجع الأسر يوميًا، يعد خرقًا صارخًا لهذه القيم، لأن الحفاظ على المال العام ليس فقط التزامًا قانونيًا، بل هو واجب أخلاقي ومسؤولية وطنية يجب أن يتحملها كل من يتولى تسيير الشأن العام.
فالمعطيات المتوفرة اليوم تكشف عن تبذير الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية مبالغ ضخمة تقارب مليار سنتيم لتسجيل وتصوير أمسية تلفزيونية، إلى جانب صفقات أخرى بملايين الدراهم لإنتاج برامج وشراء مساحات إعلانية، وهو ما يعكس سوء تدبير صارخًا للمال العام، هذه الأرقام المثيرة للدهشة تدفعنا للتساؤل بجدية حول مدى الالتزام بمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، خاصة في ظل الأولويات الوطنية الملحة والحاجة الماسة لتوجيه هذه الموارد نحو مشاريع أكثر إلحاحًا تسهم في تحسين السلامة الطرقية وتخفيف الأعباء عن المواطنين.
الأكثر إيلامًا أن هذه الموارد المهدورة، التي تتجاوز حدود المنطق، كان يمكن استثمارها في مشاريع فعلية للحد من حوادث السير، التي تكلف الاقتصاد الوطني حوالي 19.5 مليار درهم سنويًا، ففي الوقت الذي تنتظر فيه البلاد خطوات جادة لتحسين البنية التحتية، وتطوير وسائل المراقبة والوقاية، تختار الوكالة إهدار المال العام على أمسيات وبرامج لا تلامس الأولويات الحقيقية. هذا التبذير المؤلم يتقاطع بشكل صارخ مع حاجة المواطنين إلى سياسات فعالة تحفظ أرواحهم من النزيف المستمر على الطرق.
هذا النهج المستفز في تدبير الموارد يضع بناصر بولعجول، المدير العام للوكالة، أمام مسؤولية مباشرة عن هذا الواقع المؤسف، فبدل أن تُوجَّه الإمكانيات المالية نحو خطط استراتيجية وفعالة لتقليل الحوادث والحد من الخسائر البشرية والاقتصادية، نجد أن المال العام يُهدر على أنشطة سطحية تفتقر إلى أي رؤية بعيدة المدى. هذا السلوك يعكس غياب الالتزام بمبادئ الحكامة الجيدة واستهتارًا واضحًا بأولويات المواطن المغربي وحاجته الملحة لتغيير جذري في معالجة أزمة السلامة الطرقية.
ورغم المحاولات البرلمانية لمساءلة أداء الوكالة وتسليط الضوء على مكامن الخلل، فإن هذه الجهود تظل غير كافية ومحتشمة طالما تقتصر على الاستطلاعات الشكلية، الأمر الذي يصبح معه التدخل الفوري من المجلس الأعلى للحسابات ملحًا، لإجراء افتحاص شامل لمالية الوكالة، وضمان التدقيق في سلامة الإجراءات المتعلقة بالصفقات والتعاقدات التي أبرمتها، بما يحقق الشفافية ويصون المال العام من الهدر.
ما يحدث داخل دهاليز “نارسا” ليس مجرد تجاوزات إدارية عابرة، بل هو جريمة فاضحة في حق المال العام، ونموذجا صارخا للإفلات من المحاسبة والتلاعب بمقدرات الشعب المغربي، وبالتالي فالوضع لا يمكن أن يستمر تحت أي ظرف من الظروف بهذا الشكل، على اعتبار أن الدولة ملزمة بتحرك فوري، وليس مجرد ردود فعل شكلية، لضمان محاسبة كل من يقف وراء هذا الهدر الفاحش. وعليه لا بد من تدخل عاجل من المجلس الأعلى للحسابات لإجراء افتحاص دقيق وشفاف لجميع الصفقات والتعاقدات المشبوهة، لأن المال العام ليس مجالًا للاستعراض أو التبذير، بل هو أمانة تقتضي احترامًا وتقديرًا. وعليه فعدم اتخاذ السلطات المعنية الإجراءات الحاسمة، يعني أن هذا العبث سيتسبب في انهيار آخر صور الثقة في المؤسسات الوطنية، ويهدد مصير أي أمل في إصلاح حقيقي..