بقلم : محمد دحمان
لم يتمكن الصبيان من النوم إلا في ساعة متأخرة من تلك الليلة .. فأخذا مكانهما عند أسفل السرير بجانب أمهما التي كانت منهكة بعد ولادتها الصعبة ومخاضها العسير … كانت لا تزال تحاول إسكات وليدها وتهدهد به …
عاد الأب المنهك من عمله عند ساعات الصباح الأولى … وحين دلف إلى داخل البيت أحس أن هناك خطبا ما .. لكن لم يخطر على باله أن تكون زوجته قد وضعت حملها الذي أثقل بطنها تلك الليلة والذي يبدو أنه سوف يثقل كاهله هو الآخر الآن … نظر إليها وقد ملأت الحسرة أحاسيسه .. لا يدري أيفرح بهذا المولود أم يحزن …. فربما رأى أنه قد أتى في غير موعده أو أوانه .. وربما رآه كثلة من المصاريف هو غير قادر على تلبيتها الآن وليس مستعدا لها …
ارتمى فوق طرف المرتبة دون أن يخلع حذائه حتى أو يقترب من المولود الجديد .. أو حتى أن يبارك لزوجته وضعها .. فتمدد على ظهره وقدماه لا تزالان فوق الأرض …. ووضع دراعيه حول عينيه في محاولة يائسة ليغلقهما لعله يرحل بتفكيره بعيدا عن هذا الواقع الذي طالما حاول أن يتفاذي التفكير فيه ….
نظرت إليه الأم وهي تدرك عجزه .. فحاولت ان تخفف عنه هم التفكير هذا حتى لا يقضي عليه ….. كان كيس الخبز الذي أحضره من المخبزة حيث يعمل لا يزال حيث أفلته من يده عند رؤيته المشهد أول مرة …. قالت الأم …
لا عليك عزيزي … مدبرها حكيم .. وسوف يرزقنا الله ولن يتخلى عنا …
تنهد الوالد تنهيدة عميقة وأجابها بعد مضي لحظات صمت أخفت في ثناياها عجزه وبؤسه …
أجل ..أجل … سيرزقنا الله … ولن ينسانا …. وتابع … لكن لماذا يكتب علينا هذا الشقاء .. ؟؟ .. وماذا سنطعم هؤلاء الأطفال ..؟؟ .. ما ذنبهم أن يكتب لهم العيش مع أب عاجز وعاطل عن العمل … ؟؟ …..
كانت سعادة العائلة لا توصف ، الكل يبارك لهم المولود الجديد ، والبيت لا يفرغ من النسوة المهنآت ، فوج يدخل وآخر يغادر ، الجارات والقريبات من العائلة والمعارف … كل يهنئنها … لكن تلك السعادة الظاهرة على وجه الأم ، وتلك الإبتسامة المصطنعة على وجهها وهي تستقبلهن أو تودعهن كانت تخفي خلفها حزنا عميقا ، لا أحد كان يعلم سببه سوى الأب وأقارب البيت الذين لم يكونوا يتوقفون عن دعم الأسرة البسيطة ويعدون الأم أن كل شيء سيكون على ما يرام ، وأن حفل السبوع سيقام في موعده ، وأن الله والجميع معهم ولن يضعهم أبدا .
كانت الأم تؤمن بكل كلمة تقولها الخالة الكبيرة وزوجة الخال الكبير .. وتردد خلفهما … أجل … أجل … لن يضيعنا الله … لن يضيعنا …
الأب غائب طوال الوقت عن البيت في رحلة بحثه عن عمل ، يوم أو يومان في الأسبوع ، لا يهم ، المهم أن يجد ما يسد به أفواه صغاره الجائعة ولو أن العائلة كانت ملتمة حولهم ولم يكونوا يتركونهم بحاجة لأي شيء أبدا ، ومائدة الطعام كانت توضع أمام للجميع … أجل .. فالخال الكبير كان كبيرا بالفعل … كبيرا بكرمه وعطفه على كل فرد من العائلة ، ولا يرد طلب من يتوجه إليه رغبة في مساعدة أو فك ضائقة ما … لكن عزة نفس الأب كانت تخنقه ، وتجعله يشعر بالخجل من نفسه .
الأسبوع يكاد ينتهي ، وعلى الأسرة الصغيرة أن تعلن عن موعد السبوع أمام الجميع ، والأم مترددة .. لكن يحدث شيء لم يكن في الحسبان .. إبن الخالة الكبيرة يعود فجأة بعد غياب … إنه يعمل مرشدا سياحيا ، فيعلم بحال الأسرة وبالمولود الجديد ، فيقرر أن يقوم بشراء ذبيحة السبوع ، ويتكفل الخال الكبير بباقي المصاريف ، وتحتفظ الأم بما حصلته من النسوة المهنآت لنفسها .
أعلنت الأم أخيرا عن موعد السبوع ، ويخرج ابن الخالة إلى سوق الماشية ويحضر معه جديا كبيرا أقرنا ، ويدخل به البيت فجأة …. هذه تسمية مولودك يا ابنة خالتي … نزلت دموع حارة من مقلتي الأم المتفاجئة وهي تضم ابن خالتها وتدعو له ، بينما هو يطبطب عليها ويخبرها أنه لم يفعل سوى الواجب ، وأن فرحتها هي فرحتهم جميعا .
.