
بقلم:ذ. عبد الهادي مزراري
بعد سلسلة من التصريحات الحادة والتهديدات المتبادلة، عادت السلطات الجزائرية لتفرج عن الكاتب والصحافي الفرنسي من أصول جزائرية بوعلام صنصال (76 سنة)، الذي اعتُقل في نونبر 2024 إثر حديثه لوسائل إعلام فرنسية عن أن مناطق واسعة من الغرب الجزائري، في إشارة إلى الصحراء الشرقية، هي في الأصل أراضٍ مغربية اقتطعها الاستعمار الفرنسي وضمها بالقوة إلى الجزائر عندما كانت مقاطعة فرنسية.
اعتبر النظام الجزائري الذي يعيش حالة عداء مستمر مع المغرب، تصريحات صنصال مساسا خطيرا بسيادة الجزائر ووحدة ترابها. وسارعت السلطات إلى اعتقاله فور عودته من فرنسا، مما فاقم التوتر القائم أصلا مع باريس.
طالبت فرنسا بإطلاق سراح صنصال بشكل فوري، ولوحت بإجراءات صارمة ضد مسؤولين جزائريين، من بينها تجميد ودائع مالية لمسؤولين سياسيين وأمنيين وعسكريين في البنوك الفرنسية، والمنع من دخول فرنسا بما يشمل حاملي الجوازات الدبلوماسية، إضافة إلى سحب السفيرين وطرد دبلوماسيين من الجانبين.
ورغم الضغط الفرنسي، تشبثت الجزائر بموقفها ورفضت الإفراج عنه، خصوصا بعد الاعتراف الفرنسي بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية. وخرج الرئيس عبد المجيد تبون في 26 دجنبر 2024 بتصريح لاذع وصف فيه صنصال بأوصاف نابية مثل “اللص” و“اللقيط”. وفي يوليوز 2025، أيد القضاء الجزائري الحكم بسجنه خمس سنوات وتغريمه 500 ألف دينار (نحو 3600 دولار).
أصبح ملف صنصال عقدة أساسية في العلاقات الفرنسية الجزائرية، وصار من الصعب تناول أي موضوع بين الطرفين دون أن تطالب باريس بإطلاق سراحه أولا.
ورغم أن الخطاب الرسمي الجزائري كان يؤكد استحالة الإفراج عنه، صدر فجأة في 10 نونبر 2025 بيان عن الرئاسة الجزائرية يفيد بأن الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير بعث رسالة إلى تبون يطلب فيها “إطلاق سراح صنصال لأسباب إنسانية”. ولم تمض 48 ساعة حتى وصل صنصال إلى ألمانيا وسط حملة ترويج جزائرية للقرار باعتباره “التفاتة إنسانية نبيلة” من الرئيس تبون. هذا التحول المفاجئ أثار أسئلة عديدة حول الدوافع الحقيقية وراء تغيير موقف الجزائر.
اعتبر البعض أن الأمر ربما يتعلق بصفقة تتيح لتبون استكمال علاجه في ألمانيا مقابل السماح لصنصال بالعلاج هناك. إلا أن هذا التفسير بدى ضعيفا لأن القرارات الحاسمة في الجزائر ليست بيد تبون، بل بيد القيادة العسكرية التي لا تظهر أي اهتمام بحالته الصحية، خصوصا بعد الإخفاق الكبير الذي مُنيت به المؤسسة السياسية في نزاع الصحراء عقب صدور قرار مجلس الأمن 2797 في 31 أكتوبر 2025 والذي شكل انتكاسة كبيرة للدبلوماسية الجزائرية.
من جهة أخرى، رأى محللون أن ألمانيا لم تكن سوى وسيط بطلب من فرنسا التي سعت إلى كسر الجمود مع الجزائر عبر خطوة غير مباشرة تمهد لإعادة تطبيع العلاقات. وقد كشفت صحف فرنسية مثل “لوموند” و”لوبوان” أن ماكرون هو من طلب من الرئيس الألماني التدخل، دون الخوض في تفاصيل الآلية والدوافع.
غير أن الحلقة المفقودة في هذه القصة توجد داخل الجزائر. ففي 20 أكتوبر 2025، صرح مبعوث الرئيس الأمريكي ستيف ويتكوف بأن أمام الجزائر مهلة 60 يوما لتوقيع اتفاق سلام مع المغرب. رأى النظام الجزائري في هذه المهلة تهديدا أمريكيا مصحوبا بعرض قاسٍ يشمل الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، وتفكيك جبهة البوليساريو، والانخراط في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة القائمة على الأمن الإقليمي والتنمية والاستقرار.
وزاد مشروع القرار الأممي 2797 الذي صاغته واشنطن من قناعة الجزائر بصلابة الموقف الأمريكي الموالي للمغرب. كما شكل امتناع الصين وروسيا عن استخدام حق النقض ضد المشروع الأمريكي صدمة أخرى للنظام الذي اعتقد أن البلدين سيقفان في صفه.
وجدت الجزائر نفسها دون حلفاء من “الكبار”، فعادت تفكر في العودة إلى الحضن الفرنسي. ورغم وجود انقسام داخل القيادة الجزائرية بين مؤيد للتقارب مع باريس وآخر يفضل التوجه نحو واشنطن، فقد رجح القرار الأممي كفّة العودة إلى فرنسا.
بدأت اتصالات سرية بين مسؤولين جزائريين وفرنسيين، وتم الاتفاق أولا على إزالة العقبة التي شكلها اعتقال صنصال تمهيدا لخطوات تطبيع لاحقة. غير أن إنجاز ذلك تطلب دورا لوسيط ثالث يحفظ ماء وجه الجزائر، وكانت ألمانيا الأنسب لهذا الدور.
بالنسبة لفرنسا، فإن استعادة علاقاتها مع الجزائر مسألة استراتيجية بعد خسائرها المتوالية في غرب إفريقيا، وترك الساحة الجزائرية لواشنطن يشكل خطرا على مصالحها. أما الجزائر فترى في هذا التقارب “قشة نجاة” قد تمنح النظام هامش تنفس في ظل الحصار السياسي والدبلوماسي المتزايد.
لكن يبقى السؤال الأبرز:
هل ستسمح الولايات المتحدة للنظام الجزائري بالالتفاف على عرض الشراكة الذي قدمته له؟
