بقلم : د.عادل بنحمزة
تُعتبر مراكز الدراسات، فضلاً عن أدوارها العلمية والفكرية، فضاءات لممارسة السلطة وصناعة القرار، وهي إحدى التعبيرات التنظيمية التي تصاعد دورها عندما سُجّل تراجع للدولة عن كثير من أدوارها. كما أنّ هذه المراكز تعبّر في واحدة من وجوهها، عن أزمة الديموقراطية، ذلك أنّ عملية صناعة القرار تبقى شديدة التركيز، وهذا الوضع ينطبق على عدد كبير من دول العالم.
لفهم كيفية اختراق اللوبيات لصناعة القرار على مستوى الدول، يجب أولاً فهم وإدراك عملية صنع القرار، وهي واحدة من أبرز القضايا التي شغلت الباحثين والعاملين في حقول معرفية مختلفة، بخاصة في العلوم الاجتماعية، إذ انتقل علماء السياسة مثلاً، من الاهتمام العام بالمؤسسات السياسية، إلى البحث في العمليات والسلوكيات الناتجة منها، بخاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، نتيجة لحجم التحوّلات التي عرفها مفهوم وشكل الدولة ومهامها في مختلف دول العالم، وبالنظر كذلك للطبيعة المركّبة لعملية صنع القرار كظاهرة شغلت التحليل السياسي الحديث، حيث يجب التمييز بين صنع القرار واتخاذ القرار فعلياً… فصنع القرار عملية معقّدة تشترك فيها أطراف مختلفة رسمية وغير رسمية، داخلية وخارجية، بينما اتخاذ القرار، يتمّ بواسطة القيادة أو النخبة.
لقد أضحى كثير من مراكز الدراسات في السياق المغربي، مجالاً جديداً لتكريس أزمتين مزمنتين، الأولى هي واقع تأثير المؤسسات الدولية، في صيرورة القرارات الوطنية التي تُعنى بتدبير الأمور الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، وذلك منذ أول تقرير يهمّ المغرب، والصادر عن صندوق النقد الدولي سنة 1964 وإلى حدود تقرير الهيئة نفسها المتعلق بالمغرب حتى أفق 2040، مروراً بكثير من التقارير كان أشهرها تقرير “السكتة القلبية” الذي سيقود في سياقات خاصة، إلى أكبر “إنزياح” سياسي للمعارضة إلى المواقع الحكومية.
أما الأزمة الثانية، فتتمثل في الزبائنية السياسية، إذ تحوّل اللجوء إلى بعض مراكز الدراسات، إلى مجرد غطاء لتصرّف غير رشيد في المال العام. وشكّل تصاعد اللجوء إلى مراكز الدراسات وإلى مراكز بعينها… عنواناً بارزاً على التحوّل في عمليات إهدار المال العام. ولعلّ الإطلاع على الأرقام الفلكية التي تعرفها صفقات الدراسات، يكفي كدليل على أنّ اللجوء إلى هذه المراكز في كثيرٍ من الأحيان لا يستند إلى مبررات موضوعية وعلمية، بل فقط مجرد “تقنية محاسباتية” جديدة للوصول إلى المال العام وبأقل تكلفة، فكثير من الدراسات التي كلّفت الملايين من الدراهم، تُركت على الرفوف وتتمّ عملية إعادة تدويرها عند تغيير المسؤول.
إنّ عملية التنظير لدولة أقل حضوراً في كثير من القطاعات، ليس سوى النتيجة الطبيعية لدراسات وأبحاث وتقارير تلك المراكز، كما أنّ الكثير من المخطّطات القطاعية التي أثبتت فشلها على مستويات مختلفة أو لم تحقّق أهدافها المعلنة رغم الميزانيات التي رُصدت لها، ليست سوى من بُنات أفكار تلك المراكز، بحيث أنّ العديد من المشاريع والبرامج لم تخضع لنقاش كافٍ يتعلق بالجدوى الاقتصادية والاجتماعية، بل تمّ فرضها خارج سياق النقاش السياسي.
ورغم تكلفة تلك الدراسات والبرامج والمخططات الكبيرة، فإنّ أخطر ما تمثله هو سلب الإرادة عن الدولة وتهميش المؤسسات، وهذا الأمر في الواقع ليس غريباً بالنظر إلى واقع التجربة على المستوى الدولي، حيث لا يخفى الدور الإيديولوجي والسياسي لتلك المراكز وبخاصة الدولية، الذي يتمثل في ضرورة الحفاظ على تبعية الدول المتخلّفة واستمرار نقص التنمية، للمراكز الصناعية الكبرى، والسعي إلى تكريس تخلّفها البنيوي وشغلها بمجالات اقتصادية تُعاكس تماماً إتجاهات الاقتصاد العالمي المبنية على المعرفة، مع تعطيل أي مسلسل للدمقرطة من خلال التهميش المنهجي لآليات النقاش الديموقراطي المؤسساتي وتعطيل دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي، علماً أنّ كل الدول الصناعية الكبرى لعبت فيها الدولة دوراً محورياً في عمليات التحوّل والطفرات الاقتصادية والعلمية الكبرى الحاسمة التي عرفتها عبر تاريخها، وما زالت الدولة في تلك البلدان تلعب دوراً مصيرياً.
ولعلّ الأزمة المالية التي عرفها العالم سنة 2008 تعطي دليلاً على أهمية ومركزية دور الدولة، حيث تُعتبر الولايات المتحدة الأميركية نموذجاً لحضور الدولة الاستراتيجي رغم التطور الكبير الذي يعرفه القطاع الخاص.
جملة ما يمكن القول في السياق المغربي، إنّ كثيراً من مراكز الدراسات تُعتبر عندنا، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، صورةً مشوهة عن مراكز البحث الموجودة في العالم، كما أنّها تحوّلت إلى مجرد غطاء لسرقة مجهودات أطر وكفاءات القطاعات الحكومية، بحيث أنّ الجزء الكبير من الدراسات التي تكلّف المليارات، لا تعدّ سوى مجهود خالص لموظفين عموميين، كما أنّ هذه المراكز تحوّلت إلى جماعات ضاغطة، سواءً للحصول على ريع الدراسات حتى لو لم تكن ضرورية، أو لتوجيه الاقتصاد نحو ما يخدم مجموعات مصالح معينة، بحيث تتحول الخلاصات التقنية “الباردة” بفضل غطاء مراكز الدراسات، إلى مشاريع قرارات سياسية لا تعبّر في النهاية سوى عن وجه من وجوه متعدّدة لمحاولة فرملة تحقيق التراكمات الديموقراطية الضرورية.