الأستاذ إدريس رحاوي
مغاربة العالم يشكلون مورداً حيوياً للمملكة المغربية، سواء من الناحية الاقتصادية أو الثقافية. فهم ليسوا مجرد مهاجرين يبحثون عن فرص أفضل في الخارج، بل هم جسور حية تربط بين تراث المغرب العريق وتجارب دولية متنوعة. اليوم، هناك حاجة ملحة إلى إدماج هذه الشريحة المهمة في المنظومة الثقافية المغربية، ليس فقط كجزء من الهوية الوطنية، بل كمساهمين أساسيين في تطوير الصناعات الثقافية التي يمكن أن تصبح رافعة اقتصادية مهمة للمملكة.
الثقافة المغربية، التي تمتد جذورها لآلاف السنين، تتميز بتنوعها واختلافاتها التي تشكل نسيجاً حضارياً فريداً. هذا التنوع لا يقتصر على الداخل المغربي فحسب، بل يمتد عبر الأجيال المختلفة لمغاربة العالم الذين حملوا معهم موروثهم الثقافي إلى بلدان الإقامة. هذه التجارب المتراكمة تجعل مغاربة العالم فاعلين أساسيين في تعزيز الهوية الثقافية للمغرب على الصعيد الدولي. ولكن السؤال المطروح هو: كيف يمكن تحويل هذه الطاقات والإبداعات إلى رافعة اقتصادية تخدم المملكة؟
أحد الحلول الأساسية يكمن في تعزيز التواصل بين المبدعين المغاربة في الخارج والمؤسسات الثقافية في المغرب. من الضروري أن تكون هناك منصات تجمع هؤلاء المبدعين وتتيح لهم الفرصة لتبادل الأفكار والتجارب مع نظرائهم داخل المملكة. هذا التفاعل يمكن أن ينتج عنه مشاريع ثقافية مشتركة تسهم في الترويج للثقافة المغربية بعيون عالمية، وتجذب اهتمام الجماهير الدولية.
إلى جانب ذلك، هناك حاجة إلى الاستثمار في المشاريع الثقافية المشتركة. مغاربة العالم يمتلكون خبرات واسعة في مجالات متعددة مثل السينما، الموسيقى، والفن التشكيلي، وهي مجالات يمكن تطويرها بالتعاون مع مؤسسات ثقافية مغربية. مثل هذه المشاريع يمكن أن تكون وسيلة فعالة لتسويق المغرب ثقافياً، خاصة إذا تم تقديمها بلمسة عالمية تمزج بين التراث المغربي والتجارب العالمية.
لكن، رغم الإمكانيات الكبيرة المتاحة لمغاربة العالم، إلا أن هناك فجوة كبيرة في استفادة المبدعين من هذه الموارد. فعلى سبيل المثال، حسب تقرير المجلس الأعلى للحسابات، تم تخصيص ميزانية ضخمة تقدر بـ 531 مليون درهم للعرض الثقافي لمغاربة العالم، إلا أن هذه الميزانية لم تترجم إلى أثر ملموس في الساحة الثقافية لمغاربة العالم. مما يطرح تساؤلات حول كيفية توزيع هذه الموارد واستغلالها بشكل فعال يساهم في دعم المبدعين الحقيقيين.
علاوة على ذلك، يجب دعم مشاركة مغاربة العالم في المهرجانات الثقافية التي تنظم داخل المغرب. حضورهم في هذه الفعاليات يعزز من التفاعل الثقافي بين الداخل والخارج، كما يسهم في تسليط الضوء على الإبداعات المغربية في بلدان الإقامة. مشاركة هؤلاء المبدعين يمكن أن تكون فرصة لتقديم المغرب بصورة جديدة وعصرية، مما يعزز من جاذبية المنتجات الثقافية المغربية على الصعيد الدولي.
في السياق نفسه، تلعب التكنولوجيا دوراً مهماً في تعزيز هذا الربط بين مغاربة العالم والمغرب. يمكن إنشاء منصات رقمية مخصصة لعرض الأعمال الفنية والإبداعات الثقافية للمغاربة في الداخل والخارج. هذه المنصات ستكون بمثابة نافذة للتعاون الثقافي والتسويق الرقمي، مما يساهم في نشر الثقافة المغربية بشكل أسرع وأكثر فاعلية.
من بين المجالات الثقافية التي يمكن أن تصبح رافعة اقتصادية، نجد الصناعات الحرفية التقليدية. المغاربة في الخارج يمكن أن يسهموا في ترويج هذه الحرف في الأسواق العالمية، سواء من خلال المعارض أو ورش العمل التي تعرف بالجوانب التاريخية والفنية لهذه الحرف. التسويق العالمي لهذه المنتجات يعزز من القيمة الاقتصادية لها، ويفتح أسواقاً جديدة للحرفيين المغاربة.
لا يقتصر الأمر على الحرف التقليدية فحسب، بل يمتد ليشمل أيضاً الإنتاجات السينمائية والموسيقية التي تعد من أهم أدوات الترويج الثقافي في العصر الحديث. مغاربة العالم، خاصة أولئك الذين يعملون في هذه المجالات، يمكن أن يشكلوا قوة دافعة لإنتاج أفلام وأعمال موسيقية تعكس الثقافة المغربية وتجذب اهتمام الجمهور الدولي. التعاون بين مبدعين في الداخل والخارج في هذا السياق يمكن أن يؤدي إلى إنتاجات عالمية تنشر التراث المغربي وتساهم في دعم الاقتصاد الثقافي.
إضافة إلى ذلك، الجمعيات الثقافية المغربية في الخارج تلعب دوراً حيوياً في الحفاظ على الهوية المغربية وتعزيز الروابط مع الوطن. من الضروري تقديم الدعم لهذه الجمعيات، سواء من خلال التمويل أو التسهيلات التنظيمية، لتتمكن من تنظيم فعاليات ثقافية تعزز من الحضور المغربي في الخارج وتساهم في نشر التراث الثقافي.
تطوير الصناعات الثقافية المغربية لا يجب أن يكون بمعزل عن الاستفادة من مغاربة العالم، بل يجب أن يكون جزءاً من استراتيجية شاملة للتبادل الثقافي الدولي. مغاربة المهجر يمكن أن يسهموا بشكل فعال في تنظيم معارض فنية، مهرجانات، وعروض موسيقية في بلدان إقامتهم، مما يفتح الباب أمام التبادل الثقافي بين المغرب وهذه الدول. مثل هذه المبادرات تعزز من العلاقات الثقافية والدبلوماسية، وتساهم في جعل الثقافة المغربية جزءاً من المشهد الثقافي العالمي.
وفي خطوة مستقبلية، يمكن التفكير في إنشاء حاضنات ثقافية دولية تكون منصات تجمع بين المبدعين المغاربة في الداخل والخارج. هذه الحاضنات يمكن أن توفر بيئة للإبداع المشترك وتطوير مشاريع ثقافية تسهم في تعزيز الصناعات الثقافية المغربية على المستوى الدولي.
المغرب يمتلك تراثاً ثقافياً غنياً ومتعدد الأوجه، يعكس التنوع العرقي والديني والجغرافي الذي يميز المملكة. هذا التعدد الثقافي يشكل رصيداً قيماً يمكن تسويقه عالمياً من خلال دعم مشاركة مغاربة العالم في تطوير الصناعات الثقافية. التجارب التي شهدتها دول مثل فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة في استغلال تنوعها الثقافي لتحقيق نجاحات اقتصادية يمكن أن تكون مصدر إلهام للمغرب. فهذه الدول استطاعت بفضل استثمارها في صناعاتها الثقافية أن تحقق شهرة عالمية وتصبح مرجعية ثقافية عالمية. المغرب يمتلك كل المقومات لتحقيق مثل هذا النجاح، ويظل مفتاح التغيير في كيفية إشراك مغاربة العالم في هذا التحول.
مغاربة العالم ليسوا فقط مصدر دعم اقتصادي من خلال تحويلاتهم المالية، بل هم سفراء للثقافة والتراث المغربي في بلدانهم الجديدة. إشراكهم في تطوير الصناعات الثقافية المغربية يمكن أن يفتح آفاقاً جديدة ويحول الثقافة من عنصر تراثي إلى قوة اقتصادية حقيقية تساهم في التنمية المستدامة للمملكة.