أمام مراكز الفحص التقني تمتد طوابير الانتظار، حيث ينتظر السائقون لساعات طويلة في مشهد بات مألوفًا يعكس أزمة متفاقمة. في المقابل، يظل العشرات من المستثمرين عالقين، بعدما أنفقوا مبالغ طائلة لتجهيز مراكز فحص جديدة، دون أن يحصلوا على التراخيص التي تسمح لهم بمباشرة عملهم. وبين هذا وذاك، تقف الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية (نارسا) صامتة، دون أن تقدم أي توضيح حول أسباب هذا التأخير غير المفهوم.

القضية بدأت فور تعيين عبد الصمد قيوح وزيرًا للنقل واللوجستيك، حيث طرح مدير “نارسا” مقترحًا يقضي بفتح 400 مركز فحص تقني دفعة واحدة في مختلف المدن المغربية، وهو رقم أثار استغراب الوزير، الذي رأى أنه غير منطقي وقرر إعادة دراسة الملف بالكامل، غير أن هذا التريث، الذي كان يفترض أن يكون خطوة تنظيمية، تحول إلى عرقلة غير مبررة، بعدما بقيت 174 رخصة معلقة دون أي تفسير رسمي، رغم استيفاء أصحابها لجميع الشروط القانونية.
المعطيات المتوفرة تكشف أن تأخير منح التراخيص ليس مسألة إدارية بحتة، بل تحيط به علامات استفهام عديدة، خصوصا بعدما حصلت بعض الملفات على تقييم كامل بنسبة 100%، في حين لم تُمنح تراخيص لمراكز أخرى رغم الحاجة الملحة إليها. والأدهى من ذلك، أن بعض المراكز الجديدة خُطط لإنشائها في مواقع غير مبررة، كما هو الحال في مدينة الصخيرات، حيث تركزت أغلب التراخيص في حي صناعي واحد، ما يثير التساؤل حول ما إذا كان الأمر مجرد مصادفة أم أن هناك أيادٍ خفية توجه العملية وفق حسابات غير واضحة.
في ظل هذا التعطيل، تتكبد منظومة السلامة الطرقية خسائر كبيرة، على اعتبار أن كل يوم تأخير يعني مزيدًا من الضغط على المراكز الحالية، وزيادة أعداد المركبات التي تجوب الطرق دون فحص تقني دقيق، مما قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات حوادث السير. وإذا استمر هذا الوضع، فقد يجد المواطن نفسه أمام خيارين أحلاهما مر، إما الانتظار لشهور للحصول على موعد في مركز فحص مزدحم، أو اللجوء إلى حلول غير قانونية لضمان مرور مركبته، وهو ما يفتح الباب أمام أشكال مختلفة من الفساد.
اليوم، يجد الوزير عبد الصمد قيوح نفسه أمام مسؤولية ثقيلة، فإما أن يتخذ إجراءات صارمة لفتح تحقيق شفاف حول طريقة تدبير التراخيص داخل “نارسا”، وإما أن يترك الأمور تسير كما هي، بما يحول هذه الوكالة من مؤسسة يفترض أن تحمي السلامة الطرقية، إلى كيان يعطلها ويقوض مصداقيتها. فالمسألة لم تعد مجرد تأخير إداري، بل أصبحت قضية تمس الشفافية، ومصالح المستثمرين، والأهم من ذلك، سلامة المواطنين على الطرقات.
أمام هذه الفوضى، يظل السؤال مفتوحًا فيما إن كان الوزير عبد الصمد قيوح سأمر بفتح تحقيق شفاف حول المعايير المعتمدة في منح التراخيص، أم أن هذه القضية ستُطوى كما طُويت قضايا أخرى قبلها؟
المؤكد أن “نارسا” ليست مجرد وكالة إدارية، بل مؤسسة مسؤولة عن ملف يمس حياة المغاربة بشكل مباشر. وأي تلاعب أو تأخير غير مبرر في هذا القطاع لا يجب أن يُعامل كخطأ عادي، بل كملف يستحق المساءلة والمحاسبة.
فإما أن يتم تصحيح الوضع بسرعة، أو أن تتحول “نارسا” من وكالة للسلامة الطرقية إلى نموذج جديد للفوضى الإدارية التي تفتح الأبواب أمام الفساد وتعرّض حياة المواطنين للخطر.
المستقل