دكتور عادل بنحمزة/المغرب
قبل ثلاث سنوات دعا زعيم حزب حركة النهضة راشد الغنوشي بصفته رئيساً للبرلمان التونسي، إلى فتح الحدود بين بلاده وكل من الجزائر وليبيا، وإصدار عملة واحدة والعمل على مستقبل واحد لشعوب البلدان الثلاثة. جاء ذلك في مقابلة مع قناة “ديوان إف إم” التونسية تضمّنت أيضاً قوله: “علينا أن نحيي مشروع المغرب العربي ولو بالانطلاق من هذا المثلث، كما انطلق الاتحاد الأوروبي من العلاقة بين ألمانيا، وفرنسا”.
وأضاف الغنوشي: “هذا منطلقنا لإنعاش حلم المغرب العربي، ونحن من دون هذا الإطار لا نقدر على حل مشكلات تونس”، والذي اعتبر أنّها أدارت ظهرها للمشاكل التي تعرفها ليبيا، بينما كان يجب على تونس أن تكون ساحة للحل في ليبيا وهي أقرب إليها من ساحات أخرى كانت فضاءات لحوار الفرقاء الليبيين، مثلما جرى في المغرب وباريس وروما وغيرها من الدول.
زعيم حزب حركة النهضة التونسي، وهو يتحدث عن اتحاد مغاربي ثلاثي لا يشمل المغرب و موريتانيا، كان ينطلق من إكراهات الجغرافيا والواقع، وقد اعترف في المقابلة ذاتها، أنّ الحقيقة الوحيدة في السياسة هي الجغرافيا، معدّداً مشاكل الاقتصاد التونسي في علاقتها بالوضع في ليبيا وإمكان انعاش الإستقرار في ليبيا، الاقتصاد التونسي، مذكّراً برقم لافت يتعلق بمستويات البطالة في تونس، حيث قال إنّ 500 ألف تونسي كانوا يعملون في ليبيا، وهو ما يخفّض معدلات البطالة في تونس.
يمكن القول إنّ دعوة راشد الغنوشي كانت ترتبط بسياق وطني محلي، توهّم أنّ مصالح تونس يمكن ضمانها فقط بقيام اتحاد مغاربي مبتور لا يشبه نفسه ويناقض حلم شعوب المنطقة المغاربية ككل.
الجديد اليوم، هو ما أُعلن عنه في الجزائر قبل أيام، من انطلاق تنسيق مغاربي ثلاثي يتوافق تماماً مع الدعوة التي تقدّم بها الغنوشي. الفرق اليوم هو أنّ المبادرة يقودها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الذي يبدو أنّه تحت ضغط سنة انتخابية، وبالتالي فإنّ كل شيء أصبح متوقعاً منه ومن البنية التي تسنده داخل النظام، بما في ذلك إنتاج مواقف متعارضة مثل فتح معبر حدودي مع موريتانيا وإطلاق منطقة للتجارة الحرّة معها، وبعد أسبوع فقط يتمّ إقصاؤها من اتحاد مغاربي افتراضي.
منطقة المغرب الكبير تبدو وكأنّها خارج التاريخ، ففي الوقت الذي تتطور فيه الاتحادات الإقليمية بجوارها وقريباً منها، ما زالت هذه المنطقة تغط في سبات الحرب الباردة، وتلعب بعض دولها أدواراً على خشبة مسرح هجره الجميع… إذ لا متفرجين هنا، لكن من يتوهمون أنّهم يلعبون أدوار البطولة يرفضون التنازل عنها، حتى لو تطلّب الأمر الاستثمار في الفشل…
المفارقة هي أنّ المنطقة في العقد الأخير، كانت محط أنظار العالم عقب التحولات التي عرفتها كل من تونس وليبيا في إطار ما سُمّي بـ”الربيع العربي”، ورغم أنّ التجربتين تختلفان معاً في طريقة إحداث التغيير ومساره، فإنّهما معاً تواجهان صعوبات كبيرة، تظهر بلا حل في الحالة الليبية، أما في الحالة التونسية، فإنّ البلاد بعد مسار ديموقراطي توجد اليوم في قلب صراع مؤسساتي وأمام تحدّيات حقيقية لتلبية الطلب الاجتماعي المتراكم، والذي كان وقوداً أساسياً للثورة التونسية.
الاتحاد المغاربي كان حلماً، وأصرّت النخب السياسية الحاكمة المتعاقبة على حكم عدد الأنظمة فيه منذ موجة الاستقلال منتصف القرن الماضي، على أن يستمر كذلك. المؤسف اليوم هو أنّ هذا المشروع المفتوح على التاريخ والجغرافيا؛ أحجم حتى على أن يكون حلماً، فالنزعة الوطنية الضيّقة قتلت هذا الأفق، بل لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، إذ إنّ هناك ممارسات تعمل بصورة جادة، بوعي أو من دونه، على إدامة هذا الوضع وتعميق جوانب الخلاف، بدل تعزيز مساحة المشترك بين شعوب المنطقة، والتي تميز منطقة المغرب الكبير عن باقي مناطق شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فالدول الخمس تتوحّد في اللغة والدين والمذهب، وهي العناصر بالضبط التي تشكّل اليوم وقود الصراعات في منطقة الشرق الأوسط.
ما الذي يجعل منطقة المغرب الكبير عصية على الوحدة والتكامل الاقتصادي؟ ليس الوحدة بالمعنى الناصري الحالم أو الواهم، أي الدولة الواحدة كما عاشتها مصر وسوريا في لحظة من لحظات الرومانسية السياسية القومية، بل بمنطق التعاون والتضامن والتكامل العقلاني على أرضية المصالح المشتركة؛ فبينما تتفاوض بلدان الاتحاد الأوروبي مجتمعةً عبر مؤسساتها في بروكسل، نرى بلدان المنطقة تتفاوض كل واحدة بمفردها مع مجموع بلدان الاتحاد الأوروبي، فكيف يمكن لهذه المفاوضات أن تكون عادلة وذات قيمة بالنسبة لشعوب المنطقة؟
الغريب أنّ المفاوضات الجماعية الوحيدة التي تجري في إطار جماعي، بخاصة تلك التي تجمع البلدان الخمسة جنوب أوروبا مع بلدان المغرب الكبير الخمسة، هي تلك المتعلقة بالأمن والهجرة غير الشرعية، أما باقي المفاوضات المتعلقة بالتبادل التجاري، فإنّ بلدان الاتحاد المغاربي تخسر فيها بشكل مستمر، لأنّها كما قلنا تذهب إليها منفردة، علماً أنّ العديد من الخبراء الاقتصاديين يؤكّدون أنّ تكلفة غياب الاتحاد المغاربي تصل في الأدنى إلى خسارة نقطة من معدل النمو سنوياً بالنسبة لبلدان المنطقة، التي تنام على ثروات هائلة يتمّ استغلالها بشكل عشوائي يرهن مستقبل الأجيال القادمة.
ورغم أنّ اقتصادات البلدان الخمسة هي متوسطة، فإنّ قوتها؛ لو اتّحدت تتمثل في كونها تعتمد على نشاطات متكاملة. فالطاقة موجودة في كل من ليبيا والجزائر، والفلاحة والفوسفات في كل من المغرب وتونس، والحديد والثروة البحرية في موريتانيا، إضافة إلى ما تزخر به دول المنطقة مجتمعةً من قوة للشباب وملايين المهاجرين ممن اكتسبوا خبرات في العلوم والاقتصاد الحديث في بلدان المهجر، ولديهم كامل القدرة على دفع المنطقة إلى آفاق رحبة بخصوص التنمية في مختلف مستوياتها.
بقراءة موضوعية لواقع الاتحاد المغاربي الذي ظلّ منذ اتفاقية مراكش في 17 شباط (فبراير) 1988 عبارة عن اتحاد شبح، نخلص إلى أنّ ما تمّ لم يكن سوى من باب رفع العتب على نخب تلك المرحلة، بينما تستمر الأجيال الحالية والمقبلة في دفع فاتورة هذا الغياب أمام تطورات هائلة على المستوى العالمي، سواءً الاقتصادي أو التكنولوجي أو الجيوستراتيجي، وهو ما يجعل المنطقة على هامش التحولات العالمية بكل ما تحمله من تحدّيات وفرص.
التكتل الثلاثي المعلن عنه في الجزائر مصيره الفشل، لأنّه لا يتجاوز كونه ورقة الدعاية في حملة انتخابية طويلة لن تُحسم في صناديق الاقتراع…