
الصحافي أمين بوشعيب / إيطاليا

إلى من علّمونا الصمود حين بلغ منا العجز مداه.. إلى من رسموا بدمائهم الطاهرة ملامح الكرامة على وجه الدنيا، إلى من يمثلوا ضمير كل الشعوب التي تسعى إلى حقّها في الوجود.
أكتب إليكم اليوم من موضع الخجل، رسالة تحمل بين طياتها اعتذارًا، أعترف أنه غير كافٍ، لكنه جهد المقلّ.
أكتب إليكم لأقول: عذرا، لأننا تقاعسنا عن نصرتكم، حين كان الواجب أن نسبق الزمن لنكون إلى جانبكم، فنموت ونحيا معكم.
عذرا ، لأننا كنا ولا زلنا نتابع معاناتكم من خلف الشاشات، ونسمع أنين الأطفال والنساء والشيوخ من خلف الجدران، ولا نحرك ساكنًا.
عذرا ، لأن صراخكم اخترق ضمائرنا، فآلمنا للحظة، ثم عدنا إلى انشغالاتنا كأن شيئًا لم يكن. عذرا ، لأننا تركناكم وحدكم في مواجهة آلة القتل والدمار، ونحن لا نملك سوى الكلمة والدعاء.
عذرا ، لأننا فشلنا في أن نكون أهلاً لنصرتكم كما تليق بكم وبدمائكم الطاهرة.
عذرا، لأن أرواح شهدائكم أرهقتنا خجلًا، ولأن أطفالكم باتوا أكثر رجولة منّا.
عذرا، لأننا سمحنا أن يمر هذا الزمن العربي مثقلاً بالخنوع، فاقدًا للبوصلة، مين عذرا ، لكن الحكام لا عذر لهم حين قصّروا في نصرتكم، وحين صمتوا عن وجعكم وهم قادرون على نصرتكم.
يا أهل غزة الأبية.. يا من علمتم العالم كيف يُقاوم الظلم، وكيف يُزرع الأمل في ركام البيوت،
نقولها بقلوب منكسرة: سامحونا على تقصيرنا، سامحونا إن شعرتم بأن العالم تخلى عنكم.
لكننا نعاهدكم -ونحن نكتب هذه الكلمات – أن نُعيد إحياء الوعي، وأن نرفع أصواتنا، ونشحذ أقلامنا لنُعيد للقضية وهجها في كل ساحة ومكان.
وأنتم أيها الحكام العرب، أيها القادة أصحاب القرار،
ألم تهتز ضمائركم -إن بقي منها شيء- لأصوات الأطفال والنساء تحت الأنقاض؟ هل المصالح المشتركة مع الغرب وإسرائيل أهم عندكم من شلالات الدم الذي تراق على أرض غزة؟ ألم تتحرك فيكم النخوة الإنسانية -ولا أقول النخوة العربية- وأنتم تشاهدون البيوت تقصف على رؤوس ساكنيها؟ فإن لم يكن للدم عندكم حساب في ميزان السياسة، فهل لسكوتكم الطويل عذر؟
وأنتم، يا شعوب العرب،
أين غضبكم؟ أين صوتكم الذي كان يومًا يرعب الطغاة؟
لماذا ضعفتم اليوم؟ هل قيود الطغاة هي التي تمنعكم؟ هل أنهككم القمع والتطبيع والانهماك في الأزمات الداخلية؟ هل خمدت نار الكرامة فيكم؟ أم أنها أُخمدت بفعل فاعل؟
لكن إلى متى الصمت وأهل غزة يبادون في كل لحظة؟ لقد آن الأوان أن نقول بصوت واحد كفى! لقد آن الأوان أن نقول: إن إسرائيل ليست دولة إنما هي مشروع إبادة جماعية.
لكننا لا نكتب لنعتذر، ولنجلد الذات فقط، بل نكتب لنوقظ ما بقي فينا من كرامة، ونذكّر بأن أهل غزة لا يطلبون المستحيل. فرغم جراحهم، فهم لا يتسوّلون عطفًا ولا ينتظرون شفقة. غزة تطلب فقط أن نقف معها: بقرار، بكلمة، بفضح الظلم، بدعم الصامدين، وبمحاسبة من يخذلها.
فغزة الأبية تعتزّ بدمها، وبشهدائها، وبمقاومتها. لكنها تُدين صمتنا، وتُعاتبنا بلا صوت، وتذكّرنا أننا خذلناها مرارًا، وما زلنا نفعل..
يا أهل غزة الصامدين، يا من يكتبون ملحمة الكرامة بدمائهم وركام بيوتهم،
نوجه هذا المقال، لا لنضيف كلمات إلى سيل الكلمات، بل لنحمل بين السطور اعتذارًا يثقل الضمير، ويعري التقصير.
فهل نبقى هكذا؟
هل نترك غزة وحدها لتدفع فاتورة عجزنا؟
أما آن الأوان لنراجع أنفسنا، حكامًا ومحكومين، ونُعيد لفلسطين الحبيبة مكانتها في وجداننا وسياستنا وأفعالنا؟ واسمعوا أيها العرب: إن غزة مرآة كشفتنا جميعًا، وفضحتنا حين كنا نظن أنها ستندثر. واعلموا أن غزة باقية… فإن لم نستطع أن نكون لها درعًا، فيجب علينا نحن من يخشى الزوال.