
بقلم: الصحافي فؤاد السعدي

في ظل الجدل المتواصل حول الدعم العمومي الذي تستفيد منه بعض المنابر الإعلامية الورقية والإلكترونية بسخاء كبير، يطفو على السطح ملف لا يقل أهمية، بل ربما يفوقه حساسية، وهو افتحاص مالية المجلس الوطني للصحافة واللجنة المؤقتة لتسيير شؤون الصحافة والنشر. فهل آن الأوان لتحريك أجهزة الرقابة المالية، وعلى رأسها المجلس الأعلى للحسابات، لفتح هذا الصندوق الأسود وكشف خباياه للرأي العام؟
فطوال السنوات الماضية، ظل تدبير المجلس الوطني للصحافة محاطًا بالكثير من الغموض والسرية، إذ لم يتم الكشف عن التقارير المالية، ولم يُفصح عن أسماء الشركات التي أبرم معها صفقات، كما لم يتم نشر أي معطيات عن طبيعة الدراسات التي تم إنجازها لفائدته. ومع حلول اللجنة المؤقتة، التي جاءت لتدبير المرحلة الانتقالية، كان المنتظر أن تكرّس مبدأ الشفافية، لكنها اختارت نهج الصمت نفسه، ليستمر تدبير المال العام بعيدًا عن أعين الصحفيين والمهنيين، الذين يُفترض أن يكونوا أول المطالبين بمحاسبة هذه الهيئات.
إن افتحاص مالية هذه المؤسسات ليس مجرد مطلب مهني أو قطاعي، بل هو ضرورة ملحة لضمان عدم تحولها إلى قنوات لتبذير المال العام، وبالتالي فمن حق الرأي العام أن يعرف اليوم كيف تم التصرف في الميزانيات المخصصة لقطاع الصحافة والنشر، ومن استفاد منها، وهل احترمت الصفقات العمومية قواعد التنافسية والنزاهة، أم أن الأمر لا يعدو كونه توزيعًا للامتيازات بين فئة محددة؟ بمعنى “خبز الدار ميكلوش البراني”، كما أن الكشف عن أسماء الشركات التي أنجزت الدراسات لفائدة المجلس واللجنة المؤقتة سيمكن من معرفة ما إن كانت هذه الدراسات تستند إلى منهجية علمية دقيقة أم أنها مجرد حبر على ورق لتبرير صرف الأموال، فالتعامل مع المال العام بمنطق “المال السايب” يعمل السرقة.
إلى جانب التدبير المالي، يظل ملف البطاقات المهنية أيضا واحدًا من أكثر القضايا التي تحتاج إلى كشف الحقيقة على اعتبار أن المعايير التي تم اعتمادها في منح هذه البطاقات منذ تأسيس المجلس الوطني للصحافة إلى اليوم ظلت غامضة تعتريها الشبهات، ولم يتم نشر أي لائحة رسمية توضح من حصل عليها، وما إن كان يستوفي الشروط القانونية والمهنية أم لا، وهو يفرض علينا طرح السؤال، هل تم منح هذه البطاقات وفق معايير موضوعية؟ أم أن هناك تلاعبات جعلت البعض يستفيد دون وجه حق، بينما تم إقصاء آخرين لأسباب غير مفهومة؟ الأمر نفسه ينطبق على الدورات التكوينية، التي استفاد منها بعض الصحفيين دون غيرهم، في غياب أي تفسير للمعايير المعتمدة في الاختيار.
هذه الملفات وأخرى تجعل الحاجة إلى التدقيق والمحاسبة اليوم أكثر من ضرورية، فكيف يمكن لقطاع الصحافة، الذي يُفترض أنه سلطة رابعة تراقب وتحاسب باقي السلط، أن يكون نفسه خارج دائرة المحاسبة؟ وكيف يمكن لمؤسسات تدّعي حراسة أخلاقيات المهنة أن تتحصّن خلف جدران السرية في تدبير المال العام؟ إن تحريك المجلس الأعلى للحسابات لإجراء افتحاص شامل لمؤسسات الصحافة والنشر لم يعد مجرد خيار، بل هو واجب لضمان النزاهة، وإعادة الثقة إلى قطاع يعيش اليوم أزمة مصداقية حادة، وبالتالي فإذا كان هناك من يرى في الصحافة قوة رقابية مستقلة، فعليها أولًا أن تبدأ بمراقبة نفسها، وإلا فإن الحديث عن إصلاح القطاع سيبقى مجرد شعارات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع.